إعلام المواطنة: حين يصبح المواطن صحفيًا وشريكًا للأجهزة الأمنية في ملاحقة الجُناة – مقال محمد سبع

سبع محمد
 

أخبار بلا حدود- في عصر تسارعت فيه الإيقاعات الرقمية حتى تجاوزت حركة الواقع؛ لم تعد منصات التواصل الاجتماعي مجرد فضاء إفتراضي للتسلية والتعبير؛ بل تحولت إلى ساحة كبرى تتقاطع فيها خيوط الحقيقة مع وهج الصورة وسرعة الانتشار، إذ لم يعد الفيسبوك ولا التيك توك مجرّد صفحات تلهو بها الأجيال؛ بل غدوا أرشيفًا يوميًا للجرائم؛ ودفترًا مفتوحًا يكتب بأصابع عابرة فوق شاشات مضيئة شهاداتٍ حيّة عن تفاصيل لم يكن الإعلام التقليدي يجرؤ على الإقتراب منها،

في المشهد الجزائري؛ غدت هذه المنصات عينًا مفتوحة على تفاصيل لا تقبل الإرتياب؛ فهي ترصد وتوثّق وتبث من قلب اللحظة: من سرقات المحال والمنازل؛ إلى إعتداءات جسدية ولفظية تهز السكينة العامة؛ ومن حوادث مرور يخلّفها تهور السائقين؛ إلى مشاهد صاخبة لحروب عصابات الأحياء؛ وصولًا إلى ممارسات مريبة في تجارة الممنوعات، كل ذلك يتدفق في فضاء رقمي يضع المجتمع وجهًا لوجه أمام واقع فاضح لا يقبل الإخفاء ولا الإنتظار، فصارت هذه المقاطع القصيرة تنتشر كالنار في الهشيم؛ فيشاهدها الملايين في لحظة واحدة؛ فتسقط الأقنعة عن وجوه المجرمين؛ وتتكشف هوياتهم أمام الملأ، وبذلك تحولت المنصة إلى مرآة للمجتمع؛ وإلى أداة ردع بقدر ما هي أداة فضح؛ فالمجرم في زمن الشاشات لم يعد يتحرك في الظلال كما كان يفعل أسلافه؛ بل غدا أسير مسرح مكشوف تحرسه عدالة غير منظورة؛ عدالة تسكن في جيوب الناس على شكل هواتف صغيرة تحمل عينًا لا تنام، فكل لقطة تُلتقط؛ وكل بث يُطلق؛ يصبح بمثابة محضر إثبات يسبق وصول القاضي، وكأنّ القدر إستعان بالرقمي ليجعل من الفضاء الافتراضي كتابًا مفتوحًا تُسجَّل فيه الخطايا لحظة بلحظة؛ فلا جريمة تبقى يتيمة ولا فاعل يظل في مأمن من إنكشاف،

لقد فتح هذا التحول غير المسبوق نوافذ جديدة أمام الأجهزة الأمنية،؛ فإذا بالفيديو العابر في صفحة مجهولة يتحول إلى الخيط الذهبي الذي يفك أسرار قضايا مستعصية؛ وإذا بلقطة عفوية التقطها مواطن عادي تغدو مدخلًا لتحقيقات جنائية رسمية، لم تعد العدالة أسيرة الورق والحبر؛ بل وجدت في التوثيق الرقمي شاهدًا صامتًا يحمل في صمته صخب الحقيقة، ومن رحم هذا المشهد إنبثقت مفاهيم جديدة كـ’العقاب الإجتماعي الرقمي’؛ حيث يُحاكم الجاني مرتين: مرة أمام منصة القضاء ببرودها الإجرائي؛ ومرة أمام محكمة الرأي العام التي تنطق أحكامها بحدة لا تعرف الرأفة ولا الإنتظار،

لكن هذه الطفرة الرقمية؛ بما تحمله من بريق؛ ليست معصومة من التناقضات، فكما أنّ المنصات تكشف الجريمة وتلاحق مرتكبيها؛ فإنّها أحيانًا تضلل وتشوّه وتتهم بلا دليل، فقد يتحول مقطع مبتور أو صورة مقتطعة إلى سيف قاطع يذبح سمعة بريء؛ فيجد نفسه متهمًا في محكمة إفتراضية لا تعرف الإستئناف ولا الطعن، وهنا تتجلى الإشكالية الكبرى: كيف نوازن بين سرعة النشر وضرورة التثبت؛ بين الرغبة في الفضح والحرص على العدالة؟ فالمجتمع المأخوذ بسحر الصورة قد يغفل عن أنّ الحقيقة تحتاج إلى تمحيص؛ وأنّ المعلومة الرقمية ليست دومًا بريئة من المبالغة أو التحريف،

ورغم هذه المخاطر؛ تبقى القيمة الأمنية لهذه الظاهرة واضحة؛ إذ إنّ التبليغ الرقمي السريع عن الجرائم يمكّن السلطات من التدخل في وقت قياسي؛ ويتيح حماية أفراد كانوا عرضة لخطر محدق؛ ويسهم في تطويق ظواهر إجرامية قبل استفحالها، كما يفتح الباب أمام تعزيز ثقافة المواطنة الإيجابية؛ حيث لا يقف الفرد موقف المتفرج على الجريمة؛ بل يتحول إلى عين ساهرة تنبه؛ وإلى صوت يحذر؛ وإلى مشارك فعلي في صناعة أمن المجتمع، هنا يغدو الإعلام الرقمي ليس فقط أداة للفضح؛ بل وسيلة للتوعية؛ وفضاءً لغرس الوعي بخطورة الجريمة وتبعاتها،

وفي المقابل؛ أدركت الأجهزة الأمنية أنّ تجاهل عالم التواصل الإفتراضي لم يعد خيارًا ممكنًا؛ فدخلت إليه بوعي مؤسسي منظم عبر وحدات مختصة بالجرائم الإلكترونية؛ تلتقط ما يُنشر وتحوّله إلى خيوط تقود إلى الحقيقة؛ مع حرص دائم على التمييز بين الدقيق والزائف؛ وبين الشهادة الموثقة والإشاعة العابرة، وهكذا نشأ نوع من التفاعل الصامت بين المواطن وقوة القانون؛ حيث تلتقي كاميرا الهاتف مع عين العدالة في مشهد جديد يجسر المسافة بين الواقع والافتراض، وقد منحت هذه الشراكة المجتمع شعورًا بأنّ العدالة لم تعد بعيدة أو بطيئة؛ بل حاضرة في الفضاء نفسه الذي يعيش فيه الناس؛ تقف على مقربة منهم؛ وتمنحهم ثقة في أنّ النظام القانوني قادر على مواكبة إيقاع زمن الرقمنة،

لقد فرضت منصات التواصل الإجتماعي نفسها كسلطة إعلامية جديدة بفضل ما تمتلكه من سرعة في التوثيق وقوة في الإنتشار؛ متجاوزة بذلك حدود الإعلام التقليدي بآلياته البطيئة وإمكاناته المحدودة، وما يميز هذا الإعلام الوليد أنّه لا يحتاج إلى قاعات تحرير ولا إلى خبرة مهنية متراكمة؛ بل يكفي هاتف ذكي وحساب على منصة إجتماعية ليتحول صاحبه إلى شاهد مباشر على الحدث ومراسل لحظي يبث ما جرى إلى الآلاف في دقائق معدودة، هذا الانتشار الفيروسي جعل من المواطن لاعبًا أساسيًا في صناعة الخبر؛ كما وضع السلطات أمام ضغط اجتماعي متزايد يفرض عليها التدخل السريع، ومن هنا برز مفهوم جديد للأمن المجتمعي يقوم على التكامل بين الدولة والمواطن؛ حيث تشكل المواد المنشورة قرائن أولية تساعد على توجيه التحقيقات وإن لم ترتق بعد إلى مستوى الأدلة القضائية الكاملة، وقد أكد مختصون أنّ هذا الشكل من التبليغ عبر الفضاء الرقمي أسهم في تقليص زمن الوصول إلى الجناة في العديد من القضايا؛ خاصة مع ظهور صفحات متخصصة تنشر يوميًا عشرات الصور والفيديوهات التي تلاحق المذنبين وتكشف أفعالهم للرأي العام،

وكخلاصة للقول فإنّ منصات التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد أدوات للتسلية والترفيه؛ بل تحولت إلى آليات رقابية رقمية تسهم في محاربة الجريمة وردع مرتكبيها، لقد أعادت صياغة مفهوم الإعلام والأمن في آن واحد؛ وفرضت واقعًا جديدًا يقوم على الشراكة بين المواطن والدولة في حماية المجتمع، غير أنّ ضمان استمرار هذه الوظيفة الإيجابية يتطلب وعيًا رقميًا راشدًا وتأطيرًا قانونيًا صارمًا؛ يضمن أن تبقى هذه المنصات قوة ردع للإنحراف لا أداة عشوائية لتقويض السلم الإجتماعي.

تيارت: من وجع العطش إلى بهجة الطلاء… مدينة تعيد رسم ملامحها بفرشاة الحياة وألوان الانتماء – مقال محمد سبع

محمد سبع – الجزائر

حقوق النشر :

إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.

نموذج الإتصال

أية استفسارات أو نقاشات يرجى طرحها أسفله في خانة التعليقات و المناقشات.

شاهد أيضاً

سبع محمد

تيارت: من وجع العطش إلى بهجة الطلاء… مدينة تعيد رسم ملامحها بفرشاة الحياة وألوان الانتماء – مقال محمد سبع

أخبار بلا حدود- في مشهد حضاري نابض بالحياة؛ تعيش مدينة تيارت هذه الأيّام على وقع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!