
أخبار بلا حدود- في زوايا مدينة تلمسان العتيقة، وتحديدًا في حيّ “باب الحديد”، ينتصب مسجد سيدي إبراهيم المصمودي شامخًا كأحد أعمدة الإرث الروحي والمعماري في الجزائر. بُني سنة 1363م بأمر من السلطان الزياني أبي حمّو موسى الثاني، ليكون أكثر من مجرّد بيتٍ للصلاة، بل فضاءً جامعًا بين قداسة العبادة وجمال الفنّ الإسلامي الرفيع.
كان المسجد جزءًا من مجمّع ديني متكامل يُعرف باسم المدرسة اليعقوبية، يضم مسجدًا، وزاوية، ومدرسة، وقبة ضريحية. ومع مرور الزمن، لم يبقَ من هذا المجمع سوى المسجد والضريح، حيث وُوري الثرى فيه الولي الصالح سيدي إبراهيم المصمودي عام 1401م، فاقترن اسمه بالمكان، وحُفظ ذكره بين جدرانه.
- عمارة تُخاطب الروح
يمتد المسجد على مساحة متوسطة تبلغ حوالي 19 مترًا طولًا و15.4 مترًا عرضًا، ويتكوّن من قاعة صلاة تضم خمس بلاطات متعامدة مع جدار القبلة، تفصل بينها أعمدة صليبية الشكل تحمل أقواسًا مدبّبة.
غير أن أعين الزائرين لا تلبث أن تستقرّ على المحراب، وهو آية في الجمال، محفور داخل تجويف مقوّس، تحيط به زخارف جصّية بنقوش نباتية وهندسية أندلسية، تبرز براعة الصناع التلمسانيين. يعلو المحراب قبة مثمنة، ويتوسطه استعمال أنيق للرخام وتناظر زخرفي يوحي بسكينة تنبع من تخطيط معماري يخاطب الروح.
وفي قلب القاعة، يتدلّى ثريا من النحاس الأصفر، مثمن الشكل، مثقوب بنقوش دقيقة، يرشّ الضوء الذهبي الخافت على الجدران والأرواح في آن. لا يُعدّ هذا الثريا مجرّد تحفة تزيينية، بل رمزًا للأنوار الإلهية التي تهدي النفوس وتوجّه الأبصار نحو المحراب، مركز الخشوع والسكينة.
منارة علم ومقبرة ملوك
لم يكن المسجد مجرد محراب للصلوات، بل صرحًا للعلم والمعرفة، ينتمي إلى مدرسة علمية عُرفت بإشعاعها في العهد الزياني، حيث احتضنت الطلبة والعلماء في رحابه،
كما تحوّل الموقع لاحقًا إلى مقبرة ملكية لأسرة بني زيان، حيث دُفن فيه عدد من السلاطين والأمراء، ما أضفى عليه طابعًا تاريخيًا وطنيًا يكرّس مكانته بين المعالم الكبرى للجزائر.
- بين التهالك والبعث
رغم صموده لقرون، شهد المسجد في عام 1993 انهيارًا جزئيًا في أقبية الصحن، ما استدعى عمليات ترميم دقيقة امتدت لعقد كامل، إلى أن أُعيد افتتاحه عام 2003، محافظًا على أصالته وروحه،
- دروس في الصمت والجمال
مسجد سيدي إبراهيم المصمودي ليس فقط مَعْلمًا أثريًا، بل تجربة حسية وروحية متكاملة؛ مدرسة للبصر، درس في الصمت، واحتفاء بالأصالة التلمسانية. هنا، تتلاقى النور بالزخرفة، والبساطة بالرمزية، وتُروى قصة مدينة تنبض بالفن، والإيمان، والخلود.
السيد جمال من كارولينا الشمالية إلى حُضن تلمسان – مقال بوعياد دباغ فوزي
إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.