
أخبار بلا حدود- في مدينة فرندة حيث تتنفس الجبال التاريخ بصمت، ويمر الزمن خفيفًا على ذاكرة المنسيين؛ تقف مكتبة جاك بارك كمنارة ثقافية هادئة؛ لكنّها عصيّة على التجاهل؛ مبنى لا يعلو صُراخه؛ لكنّه يصدح بالمعرفة، يهمس للتاريخ ويعانق المستقبل، إنّها ليست مكتبة فحسب؛ بل تجسيد لوصيّة رجل آمن بأنّ الفكر إذا لم يُهدَ إلى الناس؛ فإنّه يموت في صمته مهما بلغت قيمته؛ رجلٍ غريب عاد إليها من بعيد؛ لا على قدميه بل في هيئة مكتبة.
ففي العام 1910 أبصرت النور في مدينة فرندة شخصية لتصبح من أبرز الجسور الثقافية بين الشرق والغرب؛ جاك بارك؛ المستشرق الذي اختار أن يكون ابن الجزائر مرّتين: مرّة بالولادة ومّرة أخرى بالانتماء الواعي إلى وجعها الحضاري؛ نشأته الجزائرية الأولى في مدارس فرندة كانت بذرة حبٍ دفينة؛ ما لبثت أن أثمرت شجرة فكر ظليلة؛ تطاولت جذورها إلى مصر وباريس وامتدت فروعها إلى بيروت والقاهرة؛ ثم عادت أخيراً إلى مسقط الرأس؛ على هيئة مكتبة تتنفس الثقافة في مدينة تكاد تختنق من غبار التهميش، لم يكن مجرد باحث يراقب من بعيد بل كان غائصًا في التفاصيل؛ منغمسًا في المجتمعات العربية؛ ناطقًا بلغتها ومتفاعلًا مع نبضها، لم يُعرف فقط بأعماله الأكاديمية وترجمته لمعاني القرآن الكريم إلى الفرنسية؛ بل عُرف أيضًا بمواقفه المناهضة للاستعمار وبدفاعه عن قضايا الشعوب المستضعفة وخاصة الجزائر التي رأى فيها أكثر من مجرد مستعمرة فرنسية؛ بل وطنًا روحانيًا، أُطلق عليه لقب “رجل الضفتين”؛ ولم يكن الوصف نحتًا إعلاميًا بل توصيفًا دقيقًا لرحلة الفكر الممتدة من الشرق إلى الغرب؛ بين الإسلام والحداثة؛ بين الأنثروبولوجيا والنقد السياسي؛ لكنّه في فرندة يُعرف بوصف آخر: الرجل الذي ترك وراءه مكتبة وصارت المكتبة مدينة،
فبينما ينتهي دور معظم المفكرين عند حدود الورق والكلام؛ اختار بارك أن يكون مختلفًا حتى في وداعه؛ فالرجل لم يرد أن ترحل معه كتبه إلى باريس؛ بل أوصى بأن تُمنح لموطنه الأوّل وكأنّه يُعيد شيئًا من الدين الرمزي لبلدٍ وهبه المعنى والتربة واللغة الأولى، فاستجابت عائلته لهاته الوصيّة والتي صارت ملحمة ثقافية؛ وسلّمت مكتبته الخاصة التي تضمنت أرشيفًا غنيًا إلى مسقط رأسه؛ لم تكن تلك؛ مجرد تبرع لمخطوطات نادرة؛ بل وصيّة حياة، ومن هنا بزغ نجم مكتبة “جاك بارك”، صرحٌ ثقافي لا يضاهيه سوى إخلاص مؤسِّسه وتفانيه في خدمة الفكر؛ وبإشراف وزارة الثقافة، وبتعاون مثمر مع المكتبة الوطنية الجزائرية “الحامة”؛ ارتقت هذه المكتبة إلى مرتبة مؤسسة عمومية راسخة؛ تؤدي دورها باقتدار في احتضان الفكر وتعميمه؛ لتغدو بيتاً للقراء ومنارة للعقول؛ ورافداً لنشر المعرفة في أوساط المجتمع؛ بروح من الانفتاح والعطاء المستدام؛ ليطلق عليها إسم ملحقة المكتبة الوطنية جاك بارك سنة 2004؛ مؤسسة تُدار بإشراف الدولة الجزائرية؛ وتُموَّل ضمن مخطط وطني لدعم الفضاءات الثقافية في البلديات،
المكتبة تقع بشارع الشهداء في الجهة الجنوبية من مدينة فرندة؛ وتمتد على مساحة تُقدّر بـ 1600 متر مربع؛ ما يجعلها من أبرز الفضاءات الثقافية في المنطقة من حيث البنية التحتية والتجهيز؛ تضم المكتبة عدّة فضاءات؛ فبالإضافة إلى قاعة خاصة تحمل اسم جاك بارك، أين رُصّت الكتب والمخطوطات؛ والهدايا التي تلقاها واحتفظ بها؛ والتي لا تزال تُعرض للزوار كنوع من الحضور الرمزي الدائم هناك؛ توجد بالمكتبة قاعات مطالعة للكبار وأخرى للأطفال؛ بالإضافة إلى قاعة مخصصة للإنترنت بما يتيح بيئة تعليمية تفاعلية وشاملة، كما يحتوي رصيدها الوثائقي على أكثر من 40 ألف نسخة موزعة على مختلف المجالات؛ من كتب ومجلات علمية إلى موسوعات ومعاجم؛ وهي مصنفة وفق النظام العشري لديوي،؛ ما يضمن سهولة الولوج إلىيها؛ الأمر الذي يجعلها ركيزة حقيقية للتكوين والبحث في المنطقة.

لكن ما يجعل مكتبة جاك بارك أكثر من مجرد مبنى؛ هو روحها المجتمعية، لقد استطاعت أن تُعيد للثقافة دورها الطبيعي في الحياة اليومية للناس؛ فخرجت من كونها نخبوية إلى أن صارت مطلبًا شعبيًا؛ فهي لا تكتفي بالإعارة والمطالعة؛ بل أصبحت شريانًا ثقافيًا ينبض في قلب المدينة؛ تفتح أبوابها كل يوم على روادها من التلاميذ والطلبة والباحثين والأطفال والمربين؛ ووفودًا ثقافية من أدباء وجمعيات؛ لتتحّول إلى مركز إشعاع ثقافي وتعليمي؛ وتلتف حوله المبادرات الشبابية؛ تُنظم داخله ورشات في الكتابة والمسرح والرسم،؛ وندوات فكرية تناقش قضايا المجتمع المحلي والعالمي؛ كما تحتضن أمسيات شعرية وأدبية ولقاءات مع كتّاب ومثقفين؛ كل ذلك ليس ترفًا؛ بل مقاومة ثقافية تُمارَس بهدوء ضد الجهل والنسيان.
أمّا الأطفال؛ فهم الحاضر الأجمل للمكتبة؛ فقد خصّصت لهم جناحًا خاصًا يربّيهم على حب القراءة؛ ويمنحهم فرصة اكتشاف ذواتهم مبكرًا؛ بين القصص المصورة وورشات الرسم والمطالعة الجماعية؛ يولد جيل جديد يرى في الكتاب صديقًا لا عبئًا؛ وتتحوّل الأمسيات الأسبوعية إلى لحظات احتفاء بالخيال؛ تصنع ذاكرة بديلة في مدينة لا تملك قصرًا للثقافة أو مسرحًا وطنيًا؛ ما يمّيز المكتبة هو أنّها لا تكتفي بأن تكون فضاءً تقليديًا للمطالعة؛ بل أصبحت منصة لتوعية السكان بمختلف الآفات الاجتماعية من خلال حملات تحسيسية تنظمها بالتعاون مع المجتمع المدني والطاقات الشابة التي وجدت فيها فضاءًا رحبًا للتعبير، وفوق رسالتها الثقافية؛ تنبعث من المكتبة روحُ الانتماء؛ إذ تحتفي بالمناسبات الوطنية والدينية كمنبر تربوي؛ يمارس دور المدرسة المدنية في عباءة الحرف والمعرفة،
في مدينة لا تملك مسرحًا؛ ولا جامعة؛ إستطاعت مكتبة جاك بارك أن تكون الجدار الأوّل الذي تتكئ عليه النخبة المثقفة والشباب الطامح للمعرفة؛ فقد باتت فضاءً مفتوحًا للانتماء الثقافي؛ ومساحة يتنفس فيها الحرف بعيدًا عن ضجيج العزلة والنسيان،
ليس غريبًا إذًا أن تُذكر فرندة في مقالات وأبحاث فرنسية وكندية وإسبانية؛ لا بصفتها بلدة منسية؛ بل كموطن لذاكرة حيّة يقف خلفها رجل آمن بأن الثقافة قادرة على تغيير العالم، فالرجل لم يترك وراءه ضريحًا يُزار؛ بل روحًا تقرأ؛ وعقلًا يناقش؛ ووصيّة تحوّلت إلى مكتبة تقود القاطرة الثقافية في مدينة لاتزال تننظر قطار التنمية.
إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.