
أخبار بلا حدود- في قلب الجزائر العتيقة؛ هناك مدينة تسمّى فرندة؛ لكنّها أشبه بلوحة بريشة رسّام كئيب نسي أن يلوّنها؛ أو أراد أن يسخر من ساكنيها، فرسم لهم شوارع بلا ظل؛ ومباني بلا روح؛ وصيفاً لا يُطاق؛ وفراغاً يئنّ من السأم؛ فلا شيء يُعادل قسوة الصيف في مدينة تفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة؛ ولا شيء يفسّر صمت الإسمنت وهو يتمدد بلا رحمة على أنقاض المساحات الخضراء؛ سوى ذلك الإصرار العجيب على تحويل المدينة إلى متحف كبير للجمود،
في فرندة؛ لا يدور الحديث عن الترفيه كترف؛ بل عن حقّ بسيط جرفته سنوات من الإهمال والتخطيط العشوائي؛ لا متنزهات تحتضن العائلات؛ ولا حدائق تبهج الأبصار؛ ولا ملاعب جوارية تلمّ شتات الشباب، المدينة بلا مرافق ثقافية تُغري بالحضور؛ وبلا فضاءات تُنفّس عن الأرواح المتعبة، لا ظلّ يُلجأ إليه؛ ولا زاوية تصلح للاستراحة؛ ما تبقى من الزمن هو صيف طويل ينهك الأجساد؛ ويقذف بالسكان من زقاق إلى مقهى؛ ومن مقهى إلى محطة؛ ومنها إلى حافلة تمضي بهم نحو مدن أخرى؛ حيث الحياة ما تزال تعرف معنى الهواء النقي والفرح العابر،
يا سادة؛ في فرندة لا نافورة تبلّل وجه طفل؛ ولا أرجوحة تُنقذ طفولة من الشارع؛ إنّها المدينة التي تُفاخر بعدم إمتلاكها حديقة واحدة؛ وكأنها تشارك في مسابقة “البلدية الأقل خضرة”؛ حيث كل ورقة شجرة تُعد خيانة للمخطط العمراني القائم على عقيدة “الإسمنت هو الحل”،
تختزل المدينة واقعًا ساخرًا مُرًّا؛ مسبح نصف أولمبي يتيم؛ مزدحم لا يتسع لأحلام أطفال الأحياء الشعبية؛ فيما المسبح البلدي الآخر مغلق منذ سنوات؛ وكأنّه دخل خانة الآثار المحمية لا المرافق الحيوية، دار الشباب؛ موجودة إسمًا؛ فهي دار يسكنها الصمت وتُؤثثها الجدران؛ يتيمة تُغلق أبوابها قبل أن يستفيق المساء فلا برامج ولا نشاطات تنير عتمة الوقت، أمّا قاعة السينما فخضعت لعملية ترميم؛ لكنّها فيما يبدو أُعيدت إلى الحياة لتُغلق أبوابها من جديد؛ وكأنّ المدينة لا تحتمل شيئًا من الحلم على شاشة كبيرة،
أماكن التسوق في فرندة؟ سراب حضري لا وجود له؛ فلا أثر لفضاءات عصرية تحفظ ما تبقى من هيبة المدينة، أمّا المطاعم الراقية مجرّد أمنيات مؤجلة؛ والكافيهات العائلية فكرة لم تُولد بعد، التنقل خلال نهاية الأسبوع؛ صار يحتاج إلى صبر الأنبياء؛ وكأنّ كل رحلة قصيرة تحتاج روحًا طويلة وأعصابًا من حديد؛ بعدما أصبحت حافلات النقل الجماعي توجّه دفتها نحو الشواطئ بحثًا عن نفسٍ مالحٍ يشبه الحياة،
ووسط كل هذا الخراب الترفيهي؛ تنهار الجدران المتشققة للملعب البلدي؛ بعدما ذاب حُلم كرة القدم فيه كما يذوب الإسفنج في الشمس؛ لم يتبقَّ منه سوى ذكرى؛ ووعود بتهيئته بالعشب الاصطناعي الذي قد لا يرى النور إلا في نشرات الأخبار المحلية،
فرندة تتنفس عبر عشرات المقاهي؛ حيث باتت رئة المدينة الوحيدة؛ تنفّسٌ إجباري لمن ضاقت بهم الأزقة وغابت عنهم البدائل؛ فنحو ثلاثين مقهى تنتشر في المدينة؛ تسدّ فراغًا خلّفه غياب حديقة واحدة؛ وكأنّها صُممت لتعوّض ما إفتقده المكان من خضرة وفسحة وهواء؛ وكأنّ الحياة في فرندة إنكمشت داخل فنجان قهوة بارد فوق طاولة متآكلة، حيث يمضي شباب المدينة أعمارهم بين جدران المقاهي؛ مقهى لكل حلم إنكسر بصمت؛ أو على أرصفة الشوارع التي حفظت وجوههم من التكرار؛ أو في أعماق هواتف تفيض بالمحتوى وتفرغ من المعنى، ومن لا يجد كرسياً شاغراً أو إشارة إنترنت، يشدّ الرحال إلى الأودية، السدود، والبرك الراكدة؛ باحثاً عن نَفَس ماء؛ عن مغامرة مبلّلة بالخطر؛ أو عن موت يأتي خفيفاً يشبه الصيف حين يتأخر عنه الظل،
الفعاليات الثقافية؟ صمت مطبق؛ لا مهرجانات؛ لا أمسيات فنية؛ لا ليالٍ تحرّك الركود، المدينة تبدو وكأنّها لا تحب الضجيج؛ حتى ولو كان ضجيج ضحك الأطفال،
فرندة، التي كانت تحمل ملامح ولاية في طور التشكّل، لا تملك اليوم حتى حديقة عمومية تليق بحنين سكانها وتعب أيامهم، مدينة بأحلام كبيرة؛ لكن بلا فسحة واحدة تليق بقلبها النابض؛ سوى “ساحة ابن باديس”؛ أو كما يحلو للفرنديين تسميتها بـ”لا بلاس”؛ تلك المساحة التي لم تكن يوماً مجرد بلاط مرصوف؛ بل ذاكرة تتنفس؛ وملاذاً لخطوات الطفولة وصدى الهتاف في لحظات النصر؛ ومسرحاً إحتضن التكريم والفرح؛ وآخرها كان تكريم فريق المدينة “فوز فرندة” لصعوده؛ حيث صفق القلب قبل الكف؛ وامتلأت العيون بفخر لا يُشترى،
لكن الساحة اليوم تشيخ بصمت؛ ينهكها الإهمال؛ وتُثقلها علامات الزمن دون أن تمتدّ يد ترفق أو تَرمِم؛ ذبلت ألوانها؛ وتكسّر وهجها؛ فلم تعد تلك اللوحة الحيّة التي كانت تسكن وجدان الناس؛ بل صارت صفحة باهتة في كتاب المدينة؛ لم تنل الساحة حقّها من التهيئة ولا من الرعاية؛ وكأنّ رمز المدينة وذاكرتها الجماعية أمرٌ يمكن تجاوزه،
في الأفق، هناك حديقيتن في طور الإنجاز؛ لكن السؤال البسيط الذي يطرحه الجميع: هل ستكون مجرد “ساحتين” بلا روح؛ كساحة الشهداء التي تحوّلت من محطة للنقل إلى ساحة ألعاب صغيرة لا تتسع إلا لبضعة أنفاس؟
أمام هذا الواقع الموحش؛ لم تجد العائلات الفرندية من خيار سوى اللجوء إلى الغابات المجاورة؛ لا حُبًا في الطبيعة فحسب؛ بل فرارًا من مدينة لا تملك ما يُعاش فيه، هناك؛ حيث لا مقاعد تُريح الظهور؛ ولا مراحيض تحفظ الكرامة؛ ولا كهرباء تُنير ظلّ الشجر؛ يجد البعض متنفسًا مؤقتًا؛ بديلاً عن لا شيء، أمّا من ضاقت به الحيلة؛ ولا يملك وسيلة للتنقل؛ فيبقى أسير جدران بيته؛ يترصّد حرّ الصيف من خلف النوافذ؛ وكأنّه ينتظر نهاية يومٍ لم يبدأ،
فرندة؛ بكل ما تحمله من رمزية تاريخية وثقل ثقافي؛ تُدار بمنطق الحياد تجاه الفرح؛ وكأنّ التخطيط إتفق بصمت على إستبعادها من كل برامج الإنماء الحيوي، رغم إمتلاكها لمواقع أثرية وسياحية نادرة – خلوة ابن خلدون؛ أهرامات لجدار؛ مكتبة جاك بيرك – إلا أنّها بقيت خارج حركية الاستثمار الثقافي والسياحي؛ دون ترويج؛ دون حماية؛ ودون إرادة حقيقية، تتراكم هاته التفاصيل الصغيرة؛ فتنتج صورة كبيرة قاتمة؛ مدينة كاملة تُدار بأسلوب التجاهل؛ وتُسجن في خريطة إنتظار دائمة؛ بين وعود لم تُنجز؛ ومشاريع لم تُخطط؛ وفضاءات لم تُنفذ، تستمر فرندة في العيش بلا نافذة مفتوحة على الحياة،
هكذا تمرّ السنوات؛ وتمرّ الفصول؛ ويبقى الصيف أقسى اختبارٍ لساكنة مدينة لا تملك حتى حقّ السباحة تحت نافورة؛ فهي ليست مدينة منسية؛ بل مدينة أُجبرت على التعايش مع الغياب، الغياب التام للبهجة؛ والغياب شبه التام لأي أثر للحياة خارج الجدران، كل ما فيها يوحي بأنّها وُلدت دون أن تُكمل نموّها؛ كأنّ أحدًا ما نسيها في منتصف الخريطة؛ ثم قرر أن لا يعود، ففرندة لا تطلب شيئًا؛ فقط تنظر بصمت؛ تنظر إلى نفسها؛ كما ينظر الجسد إلى ظله حين يفقد صاحبه؛ لا تشتكي؛ لا تتذمر؛ لكنّها تُراكِم الصمت كفنّ؛ وتُورّثه للأجيال القادمة كعادة راسخة،
فهل يحتاج الترفيه إلى ميزانية أم إلى إرادة؟ هل أصبحت فرندة مكانًا لمعاقبة الفرح؟ ولماذا نُصرّ على أن يهاجر الحلم من هذه المدينة كل صباح؟
فرندة؛ يا سادة؛ لا تحتاج إلى مهرجان ضخم؛ بل إلى نافورة صغيرة؛ إلى أرجوحة؛ إلى ظلّ شجرة؛ إلى ملعب صغير بأبواب لا تصدأ؛ تحتاج إلى من يفهم أن الترفيه ليس رفاهًا؛ بل حقٌ إنساني؛ وأكسجين لا يُرى.
فمن ينقذ فرندة من هذا الغرق في الجفاف؟ ومن يعيد لها ضحكتها قبل أن تتحوّل إلى مدينة لا تليق حتى بالبكاء؟
“فرندة لا تطلب الكثير… فقط أن تعيش كبقية المدن!”
خيول تيارت: تراث يزخر بمآثر.. ومجد يُكتب بأربع حوافر – مقال محمد سبع
إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.