السماء تُمهّد للجحيم والشرق الأوسط ينزف بثلاث لغات – مقال محمد سبع

سبع محمد
 

أخبار بلا حدود- السماء تُمهّد للجحيم والشرق الأوسط ينزف بثلاث لغات: عربية من غزة، فارسية من طهران، وعالمية بلغة الحرب الثالثة.

يبدو أنّ العالم يعيش طورًا انتقاليًا لم تعد تنطبق عليه محددات المراحل السابقة؛ فالتحولاّت الجيوسياسية الراهنة تنأى عن منطق الحرب الباردة؛ كما أنّها لا تستعيد نموذج التعددية القطبية التقليدية؛ بل تشي بولادة نظام عالمي مائع؛ مضطرب؛ تتنازعه الفوضى أكثر مما يضبطه القانون أو المؤسسات، الهيئات الأممية فقدت قدرتها على تنظيم الصراع وأدوات القانون الدولي لم تعد كفيلة بكبح إرادات القوى الفاعلة، وفي قلب هذا الانكشاف البنيوي؛ لا تظهر المواجهة بين إسرائيل وإيران كحادث عابر أو نزاع موضعي؛ بل كعلامة بارزة على دخول المنظومة الدولية مرحلة “اللايقين الإستراتيجي”؛ حيث تختلط حدود الردع وتفقد المعايير التقليدية قدرتها على إحتواء التصعيد،

فالهجوم الواسع الذي شنّه الكيان على البنى التحتية النووية والعسكرية الإيرانية لم يكن معزولًا عن خارطة التوترات الدولية المتصاعدة؛ بل جاء كامتداد طبيعي لمناخ عالمي مشحون بأزمات مركبة ومتداخلة؛ من الجبهة الأوكرانية إلى تصاعد التنافس في المحيطين الهندي والهادئ، مرورًا بانفلات ميزان الردع في غزة؛ تتقاطع جميعها في سياق واحد: لحظة دولية مشدودة إلى حافة الانفجار؛ الرد الإيراني؛ المحسوب بعناية؛ لم يأتِ كرد فعلٍ منعزل بل كمكوّن ضمن سلسلة تفاعلات استراتيجية أوسع  تتداخل فيها الحسابات الإقليمية مع الإستقطابات الكبرى بين الشرق والغرب،

هذا التطوّر الميداني لم يأتِ بقرار إرتجالي أو ضمن إطار تكتيكي محدود؛ فحجم القوة الجويّة المستخدمة؛ خصوصًا إنخراط مقاتلات “إف-35” في الهجمات؛ يكشف عن نيّة مدروسة لإعادة ضبط المشهد الإقليمي عبر العمل العسكري المباشر، كما أن ّالأهداف المعلنة قد تكون مرتبطة بعرقلة البرنامج النووي الإيراني؛ لكن السياق العام يشي بمحاولة أشمل لإعادة رسم موازين النفوذ؛ في توقيت بالغ الحساسية؛ يتزامن مع إنكماش أذرع طهران في الشام ولبنان وتآكل الطوق الأمني المحيط بها،

إنّ ردّ إيران على الهجوم بعملية عسكرية منظمة تحت عنوان “الوعد الصادق 3″؛ يشير بوضوح إلى نضج الردع الإيراني من حيث المفهوم والقدرة؛ طهران لم تكتفِ بردود فعل موضعية كما في السنوات السابقة؛ بل اختارت الاشتباك المباشر ضمن إطار زمني وجغرافي محسوب؛ مع جاهزية داخلية ظهرت في مستوى التعبئة السياسية والعسكرية؛ وفي تنسيقها مع أطراف إقليمية مثل باكستان؛ التي عبّرت عن موقف استراتيجي غير مسبوق بتأييد صريح للعمل الإيراني؛ وصل حد التلويح بتعاون عسكري مباشر وتزويد طهران بصواريخ بالستية،

في المقابل؛ إتخذ الكيان من العملية العسكرية منصة لتحريك حلفائها التقليديين؛ فالولايات المتحدة سارعت إلى تقديم الدعم العسكري والسياسي الكامل؛إذ أرسلت حاملتي طائرات ومدمرات إلى شرق المتوسط وبحر العرب؛ وقدّمت دعمًا استخباراتيًا ولوجستيًا حاسمًا لتل أبيب؛ مع إشارات واضحة إلى “تفويض دفاعي مفتوح”؛ كما وفرت غطاءا دبلوماسيا في المحافل الدولية؛ إلى جانب ذلك تجنّدت بعض الدول الأوروبية كألمانيا وبريطانيا لمجاراة السردية الإسرائيلية حول “الحق في الدفاع الوقائي”؛ رغم تحذيرات الأمم المتحدّة وعدد من العواصم من مغبة إستهداف المنشآت المدنية وحتى النووية السلمية،

ومن الجهة الأخرى؛ ظهرت إصطفافات مقلقة؛ فالصين وإن لم تتدخل عسكريًا عبّرت بوضوح عن قلقها العميق؛ في ظل شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع إيران تشمل تعاونًا في القطاع النووي؛ وقد سُرّب أنّها أرسلت شحنات عسكرية إلى إيران ضمن تعاون دفاعي سري مستمر، روسيا بدورها ندّدت بالعملية ووصفتها بـ”المغامرة الإجرامية”؛ مهددة بتفعيل تحالفاتها الجديدة خاصة مع طهران وبيونغ يانغ؛ ومحذرة من إستهداف خبراءها في محطة بوشهر، كما أعلنت استعدادها  للوساطة ضمن لهجة تحمل في طياتها إنذارًا ضمنيًا بعدم تجاوز حدود معينة؛ أمّا كوريا الشمالية  فقد إنضمت إلى جوقة الإدانة، معتبرة أنّ الهجوم الإسرائيلي تهديد للاستقرار الدولي.، وفيما تغرق أوروبا في صمت بارد؛ بدأت دولها ترمّم الملاجئ وتُحصّن الأنفاق وتعدّ العُدّة لأسوأ السيناريوهات، فالخوف من أن يتحوّل الشرق الأوسط إلى مسرح تصفية حسابات عالمية جعل العواصم الأوروبية تدرك أنّ موقعها الجغرافي لن يحميها وأنّ التاريخ لا يُعيد نفسه إلا ليؤدّب الذين لم يقرؤوه جيدًا؛ فالمخاوف ليست نابعة من وحي المؤامرة بل من حسابات رياضية؛ أطراف مسلّحة نوويًا أو حليفة لقوى نووية تصطدم اليوم في خطوط تماس؛ والتوتر بينهم لم يعد ظرفيًا بل بنيويًا؛ ومن ثمّ فإنّ الحرب لم تعد احتمالًا بعيدًا؛ بل مشروعًا يتشكل، فالدينامية الجديدة التي أنتجها هذا الصراع توحي بانفلات تدريجي من المعايير القديمة لضبط العلاقات الدولية، فالتحالفات الكلاسيكية لم تعد تحكمها القواعد المعروفة؛ بل تحركها الضرورات الظرفية؛

ما نشهده ليس مجرد تصعيد بين عدوّين إقليميين؛ بل إرتجاج في منظومة الردع العالمية وتحوّل في قواعد اللعبة، فالحرب إن إندلعت؛ لن تكون تقليدية ولن تبقى محصورة في جغرافيا محدّدة؛ فالأسلحة النووية؛ الطائرات المسيرة؛ الهجمات السيبرانية؛ والضربات الفضائية كلها أدوات جاهزة في ترسانة الأطراف المتناحرة، وللمرّة الأولى منذ الحرب الباردة، تعود فكرة “الضربة الأولى” لتُناقش على طاولات القرار؛ بل إنّ كثيرًا من المحللين باتوا يرون في الشرق الأوسط ساحة مثالية لحرب عالمية بالوكالة؛ تُدار فيها المعارك بعيدًا عن المدن الأوروبية وتُستهلك فيها طاقات الدول الإسلامية وثرواتها تحت راية “إعادة الاستقرار،”.

ليس من المبالغة القول إنّ النظام العالمي بشكله الحالي؛ يعيش لحظاته الأخيرة.، فالصراع لم يعد بين دول فحسب؛ بل بين تصورات متناقضة للعالم؛ للسيادة؛ للهيمنة؛ وللشرعية، فكل من روسيا؛ الصين؛ إيران؛ كوريا الشمالية؛ ترفض إستمرار التفرد الأميركي وتسعى لتقويضه،؛ ولو عبر الفوضى، أمّا الولايات المتحدة فهي تخوض حرب الوقت؛ وتسعى لتفكيك هذه الجبهات واحدة تلو الأخرى؛ مستفيدة من هشاشة الحلفاء،

ومع إتساع خريطة الصراع – من أوكرانيا إلى تايوان؛ ومن غزة إلى مضيق هرمز – تتضاءل إحتمالات التهدئة؛ بل إنّ سيناريو “الشرارة الصغرى التي تشعل الحريق الكبير” لم يعد سيناريو إفتراضياً بل هو مسار تصعيدي إنطلق فعليًا مع الضربات ضد إيران، وقد تبدو دائرة التصعيد مرشحة للتوسع خارج حدود المنطقة؛ إذ تلوح في الأفق مؤشرات على إحتمالية إنزلاق الوضع نحو مواجهة أميركية–روسية في بحر البلطيق؛ أو توتر مسلح بين الصين واليابان في مياه بحر الصين الجنوبي؛ وربما حتى تجدد الاشتعال على الخط الكوري–الأميركي في شرق آسيا، بما يعكس ديناميكية عالمية لا تلبث أن تتسع كلما إتسعت هوامش الاشتباك غير المضبوط،

ما يدور اليوم في الخليج وبلاد فارس لا ينفصل عن ما يُرسم في موسكو وبكين وواشنطن؛ عمليات التموضع والتحالفات العسكرية الجديدة؛ والتصعيد الإعلامي المنظّم؛ كلّها مؤشرات على أنّ العالم يتقدّم بخطى ثابتة نحو لحظة مفصلية في تاريخه المعاصر؛ وقد لا تكون هذه اللحظة سياسية الطابع أو إقتصادية النتيجة؛ بل وجودية الأثر.

جامع سيدي الناصر بفرندة: مئذنةٌ شُيّدت من حجر… وإستيقظ معها التاريخ في كل فجر – مقال محمد سبع

محمد سبع – الجزائر

حقوق النشر :

إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.

نموذج الإتصال

أية استفسارات أو نقاشات يرجى طرحها أسفله في خانة التعليقات و المناقشات.

شاهد أيضاً

سبع محمد

جامع سيدي الناصر بفرندة: مئذنةٌ شُيّدت من حجر… وإستيقظ معها التاريخ في كل فجر – مقال محمد سبع

أخبار بلا حدود- في أعالي القصبة القديمة من مدينة فرندة؛ حيث يمتزج عبق التاريخ بنفَس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!