جامع سيدي الناصر بفرندة: مئذنةٌ شُيّدت من حجر… وإستيقظ معها التاريخ في كل فجر – مقال محمد سبع

سبع محمد
 

أخبار بلا حدود- في أعالي القصبة القديمة من مدينة فرندة؛ حيث يمتزج عبق التاريخ بنفَس الروح؛ يتعالى جامع سيدي الناصر؛ شامخًا على مرتفع صخري يُشرف من الجنوب على سهل “التات” الرحب؛ هناك؛ حيث تصمت المدينة ويهمس الزمان؛ يتراءى المسجد كحارس أبدي لذاكرة المكان وأقدم معلم ديني في ولاية تيارت؛ متمسكًا بوقاره المعماري وروحه النورانية التي لم تخفت منذ قرون،

يشمخ مسجد سيدي الناصر فوق هامة فرندة؛ حيث تُلامس الأرض أسرار السماء؛ وحيث لا يُختار الموقع بالعشوائية؛ بل تُلهمه البصائر قبل الأبصار؛ في علوّ يربو على الألف متر؛ يقابل جبل بوغشوة ويستند إلى الجبل الكبير؛ كأنما أراد أهل البصيرة أن يزرعوا هذا الصرح في موضع تُصغي فيه الجبال للآذان؛ وتخشع الصخور لتراتيل الذكر؛ لم يُشيد المسجد ليُبهر؛ بل ليُنير؛ ولم يُعلَ ليُرى؛ بل ليُسمَع منه الدعاء كما يُستشعر الصفاء؛ هو مقامٌ أُقيم في الأعالي ليظلّ شاهداً على سموّ المقصد ونُبل الغاية،

الجبل هنا لا يُقرأ كعنصر جغرافي؛ بل كوصيّ صامت على ذاكرة المكان،؛ يلفّ المسجد بوقارٍ كالحارس الأمين،؛ شاهداً على مواسم السجود وركعات العارفين ودموع القادمين من بعيد؛ ومن قلب الأعالي؛ حيث يلامس الجبل السحاب؛ تفجّرت لحظات العلم والإيمان كعيون ماء من صخر الزمن؛ جلس الطلبة في حلقات نور؛ تتهادى بينهم آيات الله كما تتهادى النجوم في ليلٍ صافٍ؛ هناك؛ لم يكن التعليم دربًا من الكلام بل سُلوكًا روحيًا يتعانق فيه الصمت والخشوع؛

وفي قلب القصبة التي كانت تحيط بها الأسوار؛ وتُؤمّنها الأبواب الأربعة – باب السوق؛ باب بوعرعارة؛ الباب الكبير؛ وباب الرمل – إحتلّ المسجد موضعه في قلب “حوش ربي”؛ الحيّ الذي تفرّعت منه الدروب القديمة؛ درب زواوة؛ درب اليهود ودرب الشرفة؛ كما تتفرّع الأنهار من نبعٍ واحد؛ المسجد لم يكن مبنى فحسب؛ بل جذعاً غاص في عمق الأرض ورايةً رفرفت بالسكينة ومنارةً أضاءت دروب القاصدين،

يُروى عن هذا المعلم الشامخ أنّه وُلد منذ أكثر من ثمانية قرون؛ ورغم أنّ الوثائق الرسمية تثبت تجديد بنائه سنة 1872م؛ إلاّ أنّ الذاكرة الحيّة لأهالي فرندة تعود به إلى القرن الخامس عشر؛ حين أسّس الولي الصالح سيدي الناصر بن عبد الرحمان مدرسته القرآنية فوق هاته الهضبة الشامخة؛ فتحوّلت بمرور الزمن إلى مسجد جامع؛ نُسجت حوله الحكايات وتناقلته الأجيال كإرث روحي لا ينطفئ،

سيدي الناصر هو الرجل الذي خطّ سيرة فريدة جمعت بين السيادة والتجرد؛ إذ تولّى حكم سجلماسة؛ ثم اعتزل مجد السلطة طوعًا ليغمس قلبه في أنوار الطريق؛ متنقلًا بين مازونة ومنداس؛ إلى أن إستقر بفرندة؛ حيث غرس معالم مشروعه الديني والعلمي؛ من مؤلفاته” النوائح في طب الجوارح” و”روح البيان الجامع ودرة الحبيب”،  التي لا تزال إلى اليوم تبرق كنجوم في سماء التصوف والعرفان؛ شاهدة على عالمٍ صنع من العلم عبادة ومن العبادة رسالة،

أمّا الوثيقة الوحيدة التي تؤرّخ للبناء الحالي، فهي عقد بيع مؤرخ بسنة 1872م، تمّ فيه شراء الأرض لبناء المسجد وقد جاءت صيغة العقد بالدارجة؛ صادقة؛ تُخبر القارئ عن رغبة صادقة في العبادة؛ وعن بُعد شعبيّ تأسيسيّ لمساجد الجزائر القديمة،

وعلى غرار العمارة الموحدية؛ إرتفعت مئذنة المسجد في الزاوية الشمالية الشرقية من بيت الصلاة؛ كما هو الشأن في مساجد إشبيلية، يتكون المسجد من بيت للصلاة، صحن، وميضأة، على مساحة تقارب 360 متراً مربعاً؛ ورغم بعض الترميمات التي طالت جدرانه خلال السنوات؛ فقد ظلّ مخططه الأصلي محفوظًا دون تغيير جوهري؛

ومع مرور الزمن؛ لم تتوقف الحياة داخل هذا المعلم؛ بل ظل منارة تتلألأ في ليالي فرندة؛ حيث تُقام فيه الصلوات الخمس ويستمرّ حفظ القرآن؛ وتُتداول فيه علوم الدين؛ تمامًا كما كان عليه الحال قبل قرون؛ سكان سيدي الناصر؛ وباب الكبير؛ وأحياء القصبة العتيقة؛ ما زالوا يشدّون الرحال إليه كل يوم؛ حاملين في خطاهم صدى آبائهم وأجدادهم،

وهكذا؛ لا يقف مسجد سيدي الناصر كحجر صامت في سجل التاريخ؛ بل ككائن حيّ تنبض جدرانه بذكريات الزاهدين؛ وتفوح من زواياه رائحة السجود القديم وهمسات الدروس الأولى؛ ليس مجرد معمار يعلو على ربوة؛ بل ذاكرة قائمة بذاتها؛ تكتب في وجدان فرندة سطورًا من الصفاء؛ والورع؛ والعلم المتجذّر،

هو مقام ما زال يتنفس من عطر القُربى؛ وما زالت مآذنه تُنشد لحنًا خافتًا لا تلتقطه سوى الأرواح المُشفقة:
“هنا وطئت أقدام الأولياء؛ هنا تفتّحت الأرواح على نور الذكر؛ وهنا تنزلت السكينة على القلوب العطشى.”

فلعلّ ما يليق بهذا الصرح ليس مجرّد ترميمٍ حجري أو سطورٍ في سجلّات التوثيق؛ بل احتضانٌ وجدانيّ وإعتراف رمزيّ بمكانته؛ كمنارة قلّ وهجها في زحمة العصر؛ لكنّها لا تزال تومض في ذاكرة فرندة؛ إنّه معلم ينبغي أن يُستعاد في الوجدان الجماعي؛ لا كأثرٍ عابر؛ بل كنبراسٍ ثقافيّ وروحيّ؛ يرشد الأجيال إلى دروب العزّة الكامنة في ترابها وإلى المجد المختبئ في تفاصيلها الحجرية الصامدة.

لهيب الأمس لن يتكرّر: الجزائر تُدشّن صيف 2025 بأكبر منظومة وقائية ضد حرائق الغابات – مقال محمد سبع

محمد سبع – الجزائر

حقوق النشر :

إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.

نموذج الإتصال

أية استفسارات أو نقاشات يرجى طرحها أسفله في خانة التعليقات و المناقشات.

شاهد أيضاً

سبع محمد

لهيب الأمس لن يتكرّر: الجزائر تُدشّن صيف 2025 بأكبر منظومة وقائية ضد حرائق الغابات – مقال محمد سبع

4.1 مليون هكتار من الحياة: قراءة في العمق الغابي للجزائر أخبار بلا حدود- يُعد الغطاء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!