حين تتحوّل المقابر إلى مخازن للكراهية – مقال محمد سبع

سبع محمد

أخبار بلا حدود- في ظلال الغفلة واستشراء الجهل؛ تحوّلت المقابر من مرافئ للسكينة إلى أوكار تُدفن فيها الضغائن في أكفان التمائم؛ وتُوارى النوايا الآثمة إلى جانب الموتى الذين لم يعد يكفيهم الموت ليأمنوا من شر الأحياء؛ صارت القبور مسارح لصراع خفي؛ تُنفّذ فيه طقوس موغلة في السواد؛ يُستحضر عبرها الغيب الموهوم؛ وتُستغل رمزية الموت في استكمال حياة لا يملك أصحابها القدرة على مواجهتها بوعي وجرأة؛ حيث تتقاطع الطلاسم مع العظام، وتتشابك الأحراز مع الأكفان؛ حيث تُدفن صور رجال ونساء وأطفال في جوار الحجارة الباردة،؛ وتُغرز الإبر في أثواب ممزقة، وتُشد العقد بخيوط موصولة بالرغبة في الأذى؛ هذه ليست أساطير متداولة على ألسنة العامة؛ بل مشاهد متكررة تُكشف يوميًا في حملات تنظيف القبور؛ تُمارَس في الخفاء؛ وتُبرّر بالخرافة ويُسكت عنها باللامبالاة المجتمعية.

تُعتبر هذه الطقوس التعبير الأقصى عن انهيار البنية الروحية، وغياب الضابط الأخلاقي؛ وتقهقر العقل في مواجهة الأزمات؛ فاللجوء إلى السحر المدفون في المقابر ما هو إلا ارتكاس بدائي؛ يعكس هشاشة البنية النفسية لدى من يُمارس أو يطلب هذه الأعمال؛ يتمادى البعض في هذا الطريق المظلم تحت وطأة الانكسار العاطفي أو الفشل الاجتماعي دون وعي بأنهم بذلك يعتدون على قدسية الموتى ويهينون حرمة المدافن؛ فالسحر فعل مشين ترفضه العقيدة وتحرّمه الشريعة؛ لأنه يتوسل بالباطل ويُنجَز بمعونة الشياطين؛ ويستلزم الخروج من دائرة التوحيد إلى مستنقع الشرك؛ هو رقى وعزائم وكتابات تُحدث أثراً باطنياً في الأبدان والنفوس، لكنها لا تُثمر سوى الخراب؛ الساحر بما يفعله يفرّط في دينه ويُسلم نفسه للذل في مقابل سلطة موهومة أو رغبة دنيوية زائلة.

تعد المقابر بيئة مثالية لهؤلاء المنحرفين روحياً؛ فبعيدًا عن العيون وفي ظل السكون ينفذون شعائرهم الدنيئة دون رادع؛ يعمدون إلى دفن طلاسمهم تحت الأشجار؛ خلف القبور؛ أو حتى داخلها؛ في امتهان فج لكرامة الموتى؛ يظنون أن جنّ المقابر لما له من رهبة في الوجدان الشعبي؛ سيمنح طقوسهم “شرعية خفية” تغني عن مواجهة الحياة بالحقيقة؛ وقد كشفت حملات شبابية تطوعية حجم الانحدار الذي بلغه بعض الأفراد؛ حيث عُثر على تمائم مصنوعة من شعر بشري، ملابس ممزقة؛ عظام حيوانات؛ دمى مثقوبة؛ وأقفال حديدية مربوطة بصور؛ كلها أدوات تُستخدم لإلحاق الأذى بأشخاص محددين؛ عبر إيحاءات شعائرية تعكس حالة من الانفصال التام عن العقلانية والإيمان.

في جانب القانون؛ لا تزال هذه الممارسات تعيش في المناطق الرمادية؛ حيث لم يُدرج السحر والشعوذة ضمن الجرائم المسماة بأسمائها؛ بل تُصنف أفعالها تحت بند تدنيس القبور أو الاعتداء على حرمة الموتى أو الإضرار بالغير، حسب النتيجة المترتبة؛ هذا الغياب للوضوح التشريعي يُغذي التردد في التصدي لها بصرامة.

أما الجانب الديني؛ فقد شدد العلماء على أن اللجوء إلى هذه الأعمال مظهر لانحدار عقائدي وغياب للتوكل على الله، وتضليل لعقول العاجزين عن الصبر والتبصر؛ لا يُجمع الإيمان بالخرافة في قلب واحد ولا يُطلب النفع من خلال الإيذاء ولا يُشفى قلب مكسور بكسر قلوب الآخرين؛ هذه الممارسات منافية لأصول الدين؛ وتعبير عن سلوك منحرف ينتمي إلى الجاهلية الأولى.

ومن الناحية النفسية؛ فإن اعتماد الإنسان على هذه المعتقدات نابع من تراكمات خفية؛ وخلل في التوازن النفسي؛ ونقص في الوعي الذاتي يدفعه إلى البحث عن حلول غير عقلانية لمشاكله؛ هي إسقاطات داخلية تُلبَس قناعًا روحانيًا مزيفًا لتهرب من مواجهة الواقع وتُلقي باللوم على قوى غيبية بدل مساءلة الذات.

الرقية الشرعية، التوكل، الذكر، والمحافظة على الطهارة، تبقى الأسلحة المشروعة لتحصين النفس والبيت، بعيدة عن الهلع والخوف؛ أما العلاج النفسي فهو ضرورة في حالات التوهم أو الهوس، لتقويم السلوك واستعادة الثقة.

فحين تُصبح المقابر مقاصد للسحرة بدل أن تكون مواطن للموعظة، فاعلم أن الخطر لا يسكن في الطلاسم وحدها، بل في الأفكار التي تُبررها، والنفوس التي تُؤمن بها، والمجتمعات التي تُسكت عنها؛ فمواجهة هذه الظاهرة تتطلب تكاتف الجميع: الأسرة؛ المدرسة؛ المسجد؛ وسائل الإعلام؛ والسلطات التنفيذية والقضائية؛ لا يمكن القضاء على السحر بإصدار فتوى أو حملة مؤقتة، بل بمشروع تربوي شامل يُعيد بناء الوعي الجمعي ويُحرر الإنسان من قيد الخرافة ويدفعه إلى المواجهة الصادقة مع نفسه ومع واقعه.

خلوة ابن خلدون.. مغارة أنجبت علمًا ودفنها الإهمال – مقال محمد سبع

محمد سبع – الجزائر

حقوق النشر :

إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.

نموذج الإتصال

أية استفسارات أو نقاشات يرجى طرحها أسفله في خانة التعليقات و المناقشات.

 

شاهد أيضاً

إبراهيم أمين مؤمن

الأب الفيلسوف – إبراهيم أمين مؤمن

مشهد 1: الغياب والحضور الابن: أبي، هل رأيت جنازة آلان كردي؟ الأب: لم أرها، لكنني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!