خلوة ابن خلدون.. مغارة أنجبت علمًا ودفنها الإهمال – مقال محمد سبع

سبع محمد
 

أخبار بلا حدود- في أعالي التلال التي تُشرف على سهل “التات” الخصب، في ربوة تطل على وادي التاريخ المهجور، تتكئ مغارة باردة الظل، عميقة الصمت؛ شاهدة على زمنٍ كانت فيه الفكرة أثمن من العرش؛ والعزلة أعقل من البلاط، لا تبتسم لزائر ولا تغضب من غياب أحد؛ فقط تشهق بهدوء منذ سبعة قرون، وهي تحتضن آثارًا منسية وحجارة مشبعة بالمعرفة.

إنها إحدى مغارات قلعة بني سلامة في قرية تاوغزوت؛ التي لم تُنصفها القرون؛ لا حين كانت موطنًا لقبائل زناتة المتصالحة مع الحياد؛ ولا حين تحوّلت إلى معقلٍ للهارب من دسائس الملوك؛ مغارة صامدة لا تُهرم؛ وإن شاخت الصخور التي تحيطها، هناك في حضن التهميش نسج ابن خلدون نصّه الكبير، واستوى التاريخ مادةً للفكر لا سلاحًا للسلطان.

تاغزوت لم تكن مجرّد قرية تقف على هامش الخريطة، بل موطنًا لتقاطع السلالات وصراع الإرادات، منذ الفتح الإسلامي وهي تحمل على كتفيها عبء الحياد، لا تُنازع في الحروب؛ ولا تفرح بالغنائم، مرّت عليها دول وسلالات؛ من الرستميين إلى الموحدين،؛ من الزيانيين إلى المرينيين، ولم تلتفت إليها كتب الرحالة كأنّها عار على الحبر؛ أو نقطة زائدة في مخطوط التاريخ.

القلعة التي آوت ابن خلدون، كانت يومًا حصنًا بُني على يد الشيخ سلامة بن نصر؛ أو هكذا تقول المراجع لمن أراد التصديق؛ بنيت لتكون سكنا لا للحروب؛ بل للتفكر في ما بعد الحروب؛ كتب فيها ابن خلدون مقدمته، تلك التي ملأت الدنيا وشغلت أهل الفكر، وانطفأت أضواؤها عند عتبة الكهف؛ حيث لا كهرباء تصل؛ ولا طريق تُعبّد؛ ولا مَعلم يُدلّ؛ اختارها الرجل ذات عزلة، هاربًا من مطاردات السلاطين؛ فاحتضنته تاغزوت كما تحتضن الجدران الرطبة أسرار القرون.

في تلك الزاوية؛ هناك حيث تتسرب الحكمة من قطرات الماء النابتة من الصخور، كتب مقدمته الخالدة؛ لا ليمجّد سلطانًا؛ بل ليشرح دورة العمران وانهياره، وليضع للسياسة ميزان العقل بدل عصا الجلاد؛ تلك “المقدمة” لم تكن فصلًا افتتاحيًا لكتاب؛ بل افتتاحًا لعصر ونقطة تحوّل في فهم المجتمع بعيونٍ لا تُعجبها الزخارف ولا تُراهن على الدجل.

  • تاوغزوت: ضريح التاريخ الحيّ في جسد ميت

لكن كما يليق بمن ينجب الفكرة؛ تُنكر عليه الأرض حقّ الأمومة؛ تاوغزوت التي أنجبت “خلوة ابن خلدون”؛ تعيش اليوم كما تعيش الأرامل في قاع النسيان، لا صوت ولا ضوء ولا حتى خريطة؛ مكان زاره الأنثروبولوجي الفرنسي جاك بيرك، وعكف على دراسة أثره على فكر ابن خلدون؛ ثم غادر تاركًا وراءه سكان القرية يتلصصون على الكهرباء بكوابل عشوائية؛ ومياه صرف صحي آسنة تتسلل عبر مسالك غير شرعية؛ وتصب بكل وقاحة في الحقول الزراعية؛ التي لا يملك سكان تاوغزوت سواها.

موقعٌ أثري كان ينبغي أن يُحاط بسياج من المجد؛ صار يُزار بلا لوحات إرشاد؛ بلا مراكز استراحة؛ بلا خيط يدلّ السائح على ما يرى؛ لا يوجد هنا ما يُشبه ما يسمى بـ”الخدمات السياحية”؛ لا دليل ولا خبير آثار؛ فقط أنين حجارة وذكرى مفكرٍ عظيم تستظل تحت ظلّ خيمةٍ من الغبار.

من هذه المغارة خرج ابن خلدون بنظرية “العصبية”؛ وبمشروع فكري خلاق لم تعرفه الإنسانية من قبل؛ أمّا نحن فقد دخلنا هذه المغارة ولم نخرج منها بعد؛ لا علمًا ولا عمرانا؛ ففي الوقت الذي تحوّلت فيه كهوف أوروبا إلى متاحف ومراكز بحثية وفضاءات سياحية تُدر المليارات؛ لا تزال مغارة ابن خلدون تُركل بأقدام البقر.
فالمدارس لا تنظم زيارات لتلاميذها، ولا المعاهد والجامعات تستفيد من عبق التاريخ وتحتضن الندوات، المثقفون أولئك المتغنّون بالأصالة لا يعرفون الطريق إلى تاوغزوت، يبدو أن “العصبية” التي تحدث عنها ابن خلدون انتقلت من القبائل إلى النخب؛ فالكل يعصّب لقناعاته؛ وينغلق على مصالحه؛ فلا أحد يريد أن “يقود القاطرة”؛ وكلهم يفضّلون الجلوس في العربة الخلفية؛ يراقبون المأساة ويتفلسفون حولها في المقاهي؛ ولا يكلفون أنفسهم عناء السفر خارج المدينة، لا أحد من نُخب الورق الملمّع رفع صوته؛ أو حتى قلمًا؛ دفاعًا عن مغارةٍ كتب فيها التاريخ أهم ما كُتب؛ إنّها لعنة المجد حين يولد في المكان الخطأ.

في ثمانينات القرن الماضي، كانت المنطقة تضج بندوات وملتقيات؛ يجتمع فيها الباحثون والمفكرون لتخليد الأثر وتفسير النص، كان هناك حضور؛ وكان في الحضور معنى؛ أما اليوم فقد غادر المعنى المكان؛ وحلّ محله الصمت؛ الصمت الذي لا يقطعه إلا حفيف الريح في تجاويف المغارات.

تاوغزوت اليوم ليست سوى قرية مقطوعة من شجرة التنمية، لا تبعد سوى ست كيلومترات عن عاصمة البلدية (فرندة)؛ لكنّها تبدو على الخريطة وكأنها جزيرة مهجورة في عرض بحر الإهمال؛ فالطريق المؤدي للقرية مهمل تمامًا؛ فلا وسيلة نقل تصلها بالعالم؛ فقط خطوات متعبة من زائرين مغامرين؛ ما زال في قلوبهم شيء من الحب لهذا الإرث؛ ولا جسر يصل الإنسان بظلال الماضي؛ إنّها ليست معزولة جغرافيًا فقط؛ بل ثقافيًا أيضًا؛ محاصرة بحصار اللامبالاة؛ مغمورة في ظلمة الجحود، الغريب أنّ سكانها ما زالوا هناك، يراقبون الحجارة ويتنفسون الأمل من فمٍ ضيّق؛ يحملون في قلوبهم ذاكرة لا تنطفئ؛ لعلّ الزمن يلتفت إليهم ذات غفلة.

ولأن الإهمال لا يُحب الوحدة، تواطأ مع النسيان؛ وتكاتفا مع الغفلة، ليدفنا تاريخًا كان يمكن أن يُستثمر ثقافيًا؛ تربويًا؛ سياحيًا، كل شيء في هذا المكان يصرخ بلا صوت: “هنا مرّ ابن خلدون، وهنا سقط الوعي خلفه”؛ وحدها المغارة ما زالت صامتة، لا تبكي ولا تشكو؛ لكنّها تشهد على وطنٍ أنجب الفكر ووأده؛ صنع المعنى ونسيه؛ كتب المقدمة ثم مزّق الصفحة.

ابن خلدون كتب في مقدمته عن سقوط الدول حين يتخلّى أهلها عن العدل والصدق والكفاءة، ولو عاد اليوم إلى مغارته؛ سيكتب “النهاية” ويضع عليها عنوانًا يليق بهذا الخراب” نهاية المجتمع الذي قرأ المقدمة ولم يفهمها”.

الملعب البلدي بفرندة يُحتضر – مقال محمد سبع

محمد سبع – الجزائر

حقوق النشر :

إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.

نموذج الإتصال

أية استفسارات أو نقاشات يرجى طرحها أسفله في خانة التعليقات و المناقشات.

 

شاهد أيضاً

سبع محمد

الملعب البلدي بفرندة يُحتضر – مقال محمد سبع

أخبار بلا حدود- من كان يصدق أن الملعب البلدي الشهيد سعيدي الجيلالي، الذي كان يومًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!