- 4.1 مليون هكتار من الحياة: قراءة في العمق الغابي للجزائر
أخبار بلا حدود- يُعد الغطاء الغابي في الجزائر ثروة حيوية واستراتيجية ذات أبعاد بيئية واقتصادية وتنموية بالغة الأهمية؛ فبمساحة تُقدّر بأكثر من 4.1 مليون هكتار؛ أي ما يمثل نحو 1.76% من المساحة الإجمالية للبلاد؛ يشكل هذا الغطاء رئةً خضراء تساهم في التوازن المناخي وحماية التربة من التعرية والمحافظة على التنوع البيولوجي؛ فضلاً عن دوره في تنظيم الدورة المائية ومكافحة التصحر، وتضم الغابات الجزائرية تنوعاً نباتياً هائلاً؛ من أشجار الصنوبر الحلبي؛ الفلين؛ والأرز الأطلسي؛ البلوط إلى أنواع نادرة من النباتات الطبية والعطرية؛ تُشكّل هاته الغابات منظومة بيئية متشابكة ومعقدة، تنسج في أحشائها شبكة حيوية غنية ومتنوعة تستضيف طيفًا واسعًا من الكائنات البرية النادرة والمهددة بالانقراض. من أبرز هذه الكائنات الغزال الأطلسي الذي يمثل رمزًا للثراء الطبيعي بالمنطقة؛ والضبع المخطط الذي يلعب دورًا مهمًا في التحكم البيئي من خلال دوره كمسؤول عن توازن السلسلة الغذائية؛ إلى جانب الثعلب الأحمر الذكي والذئب الرمادي الذي يعكس حالة الاستقرار البيئي في تلك الموائل؛ كما يحتضن هذا النظام الحيوي الوشق البربري المفترس المتخفي الذي يُعتبر مؤشراً دقيقاً على صحة التوازن البيئي؛ بالإضافة إلى العديد من الطيور البريّة التي تضفي أبعادًا إضافية للتنّوع البيولوجي؛ لذلك تمثل هاته الغابات خزّانًا حيويًا للأمن الإيكولوجي الوطني؛ ليس فقط لمساهمتها في الحفاظ على التنوع البيولوجي؛ بل أيضًا بوصفها ركيزة أساسية للحفاظ على التوازن البيئي المستدام؛ ومقياسًا حيويًا حساسًا يعكس مدى صحة ومرونة النظام البيئي بأكمله،
- من خنشلة إلى تلمسان: الخريطة الغابية بوابة للتنمية المستدامة
وتمتد هذه الثروة الغابية الثرية على طول مساحة واسعة من البلاد؛ متباينة في توزيعها بين الشرق والغرب؛ لكنّها تتركز بشكل بارز في المناطق الشمالية وجبال الأطلس؛ حيث تشكل ولايات خنشلة؛ باتنة؛ تيزي وزو؛ بجاية؛ سكيكدة؛ البويرة؛ بومرداس؛عين الدفلى؛ تيسمسيلت؛ مستغانم؛ وهرا؛ن تلمسان منابر طبيعية حيوية لهذا التنّوع البيئي؛ هذه الغابات ليست مجرد مساحات خضراء فحسب؛ بل هي منظومة بيئية حيوية تتكامل مع النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات المحليّة؛ إذ ترتبط بها العديد من الأنشطة التي تمثل مصدر رزق مباشر وغير مباشر لعشرات الآلاف من الأسر؛
من بين هاته الأنشطة؛ تبرز تربية النحل التي تعتمد على التنّوع النباتي في هذه الغابات لتوفير بيئة خصبة لإنتاج العسل الطبيعي عالي الجودة؛ إضافة إلى جني الفلين الذي يُعدّ من الموارد الاقتصادية المهمة،؛ حيث توفر الغابات مخزونًا مستدامًا من هذه المادة التي تُستخدم في صناعات متعددة؛ كما يعتمد سكان المناطق المجاورة على الرعي التقليدي الذي يستفيد من المراعي الغابية في تغذية قطعانهم،؛ ما يعكس علاقة متبادلة بين الإنسان والطبيعة تقوم على احترام التوازن البيئي؛ إلى جانب ذلك، تتنامى السياحة البيئية بشكل ملحوظ، حيث تستقطب هذه المناطق الزوار الباحثين عن الاستمتاع بجمال الطبيعة الخلابة والهواء النقي،

- جمرٌ في الذاكرة… واستراتيجية في الميدان: قراءة في حرائق 2021–2024
لكن هذه الثروة؛ وعلى الرغم من مكانتها الاستراتيجية؛ ظلت لسنوات رهينة أخطار متزايدة؛ لعلّ في مقدمتها موجات الجفاف والحرائق المتكرّرة التي أضحت تهدد وجودها وتستنزف مقدّراتها؛ ومن هنا؛ تبرز أهميّة التحولاّت العميقة التي أطلقتها الدولة الجزائرية في السنوات الأخيرة؛ من أجل حماية هذا الإرث الطبيعي واستدامته؛ وقطع الطريق أمام النيران المفتعلة أو الطبيعية التي كانت تحوّل كل صيف إلى فاجعة،
فلم تكن حرائق الغابات في الجزائر مجرد ظاهرة طبيعية عابرة؛ بل كانت ولسنوات كارثة موسمية تحمل في طيّاتها الألم والدمار وتذكّر كل صيف بشيء من الفقد والخسارة؛ بين نيران اندلعت لأسباب بشرية؛ وأخرى زادها الجفاف والمناخ المتطرف اشتعالاً؛ كانت الغابات الجزائرية تحترق عامًا بعد آخر؛ ومعها تُحترق بيوتٌ ومزارع وأشجار ومواسم زيتون؛ بل وأرواح أبرياء ظلوا بين فكيّ لهيب لا يرحم وتقصير كان في وقت ما يصعب احتواؤه،
أسوأ سنوات الجحيم كانت تلك التي سُجلّت في صيف 2021؛ حين التهمت النيران أكثر من 89 ألف هكتار من الغابات في 35 ولاية؛ على رأسها تيزي وزو وبجاية والبويرة وسكيكدة؛ اندلعت الشرارة الأولى في تبسة يوم 7 أوت؛ ولم تمضِ سوى أيام قليلة حتى اجتاحت اللهب أكثر من 20 ولاية؛ في واحدة من أكثر المآسي التي أرّقت ذاكرة الجزائريين الحديثة. ؛ كانت المستشفيات في حالة طوارئ؛ والنيران تعزل القرى؛ والناس تفرّ بجلدها من منازل تحوّلت إلى رماد؛ النحل احترق في صناديقه،؛ والثمار جفّت في أشجارها قبل أن تلتهمها النار؛ حتى الغطاء النباتي فقد قدرته على المقاومة مع درجات حرارة استثنائية وصلت إلى 45 درجة.
أما سنة 2023 فللم تكن أقل وطأة؛ فقد شهدت البلاد 97 حريقًا عبر 16 ولاية؛ أحرقت أكثر من 38 ألف هكتار؛ وعلى الرغم من تدخل الطائرات الروسية المستأجرة من طراز Beriev Be-200 ومشاركة أكثر من 8000 رجل إطفاء و529 شاحنة؛ إلّا أنّ الأضرار ظلت جسيمة؛ خاصة في منطقة القبائل وبعض الولايات الشرقية؛ لكن كل هذا لم يكن سوى مقدمة لتحول جذري في إدارة الكارثة؛ فمن رماد الإحتراق؛ بدأت الدولة تُعيد رسم ملامح سياسة الغابات وتنتقل من موقف رد الفعل إلى موقع الفعل؛ من الترقب إلى التحكم؛ ومن الصدمة إلى المبادرة.
عام 2024 مثّل بداية هذا التحوّل الجوهري؛ ولأوّل مرة منذ سنوات؛ لم تُسجّل الجزائر أي ضحايا بشرية بسبب الحرائق؛ وانخفضت المساحة المتضررة إلى أدنى مستوى لها منذ الاستقلال؛ إذ لم تتجاوز 3484 هكتارًا موزعة على 732 بؤرة؛ وهو ما يُترجم تراجعًا بنسبة 91٪ مقارنة بالمعدل السنوي للعشرية السابقة،؛ حيث كانت الحرائق تأتي عادةً على أكثر من 40 ألف هكتار كل سنة؛ هذا الإنجاز لم يكن وليد المصادفة؛ بل نتيجة استراتيجية متكاملة إعتمدت على الاستشراف والرقمنة وتعزيز الجاهزية التقنية واللوجستية،
- صيف 2025: الجزائر تواجه الحرائق بنظام وقائي واستجابة جوية متكاملة
لقد دخلت الجزائر صيف 2025 وهي محصنة بمخطط وطني جوي وولائي؛ تحوّل فيه التصدي للحرائق إلى منظومة شاملة؛ بحيث تم استئجار 12 طائرة قاذفة للمياه؛ منها 7 طائرات قادمة من الأرجنتين و5 مملوكة لطاسيلي للطيران؛ بالإضافة إلى طائرات ومروحيات تابعة للجيش الوطني وطائرتي استطلاع من الحماية المدنية؛ هذا الأسطول الجوي المدعوم بالأرتال البريّة المتنقلة والدوريات على مدار الساعة؛ يتيح استجابة سريعة لبؤر اللهب أينما وُجدت؛ ولم تقف الدولة عند حدود التدخل؛ بل سبقت ذلك بتفعيل نظام مراقبة إستباقي؛ يعتمد على تفعيل أبراج المراقبة؛ وإستخدام الدرون والكاميرات الحرارية؛ مع تعزيز التعاون مع الوكالة الفضائية الجزائرية لرسم خرائط دقيقة للمناطق المعرضة للخطر،
كما تم تأسيس مقاربة جديدة لمكافحة حرائق الغابات من خلال المرسوم التنفيذي رقم 24-429 الصادر في أواخر ديسمبر 2023؛ والذي مثّل خطوة تنظيمية حاسمة نحو اعتماد سياسة وقائية فعالة ومندمجة؛ ينص هذا النص القانوني على إلزامية إعداد مخططات محليّة على المستويين البلدي والولائي؛ تُسخَّر فيها كافة الإمكانيات البشرية واللوجستية المتوفرة؛ مع إدماج السكان المحليين المقيمين بالمناطق الغابية ضمن آليات التدخل وذلك بعد تمكينهم من تكوين ميداني متخصص يؤهلهم للمساهمة في جهود الحماية والمراقبة،
وفي سياق متصل؛ شدّد المرسوم على تطبيق إجراءات وقائية صارمة؛ أبرزها فرض منع كلي على الولوج إلى الفضاءات الغابية خلال فترات الخطر المرتفع؛ إضافة إلى تجريم كل الأنشطة التي قد تُحدث شرارة أو تسهم في نشوب الحرائق؛ وعلى رأسها الشواء والأعمال العشوائية؛ ولتعزيز فعالية هذه المقاربة؛ تم إطلاق حملات توعوية وتحسيسية واسعة شملت الفلاحين والسكان القرويين؛ وحتى التلاميذ في المؤسسات التعليمية؛ بهدف نشر ثقافة الوقاية البيئية وتكريس الوعي الجماعي بأهميّة الحفاظ على الغابات كرصيد وطني استراتيجي مهدّد.
التحول الرقمي كان حاضرًا بقوة في هذه المعركة؛ إذ طوّرت المؤسسات الناشئة أنظمة ذكية لتتبع الحرائق وتحديد درجة الخطورة مسبقًا مع استخدام تقنيات الاستشعار عن بعد، وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لرصد وتحليل أنماط الاحتراق. ؛ كما أُطلقت تجربة نموذجية بالتعاون مع وزارة التعليم العالي في ولاية البليدة؛ تعتمد على الأقمار الصناعية والإنترنت لمسح المناطق الجبلية عالية المخاطر،
وفي موازاة التدخل السريع والرقمنة؛ استعادت الجزائر مشروعها البيئي الأكبر: السد الأخضر؛ هذا الحزام النباتي الذي يُعد “مشروع القرن”؛ استُأنف العمل به ضمن خطة إعادة التهيئة والتوسعة؛ ليشمل مناطق سهبية عديدة؛ فزُرعت أشجار الزيتون والفستق والمشمش؛ كما أُطلقت تجربة زراعة 500 هكتار من أشجار “الباولونيا” في الأغواط لإنتاج الخشب؛ بغية تثبيت التربة ومقاومة التصحر وتعويض الغطاء النباتي المتآكل؛ وأُنشئت خنادق مضادة للنيران؛ وعُززت المسالك الغابية لتسهيل عمليات الإطفاء الأرضية.
- من رماد الماضي إلى وعي المستقبل: الجزائر تستعيد الغابة وتؤّمن دربها
النتائج؛ في مجملها؛ تنبئ بتحوّل إستراتيجي حقيقي في التعاطي مع الخطر؛ فبعد أن كانت النيران تفرض على الدولة الإستنفار؛ باتت هي الآن من تفرض عليه الطوق قبل أن يتّسع؛ بعد أن كانت الخسائر تُرصد في الأرواح والممتلكات؛ أصبح الحديث عن الإنقاذ والردع والرقابة؛ والأهم أنّ الجزائر دخلت الجزائر عهدًا جديدًا في مواجهتها لحرائق الغابات؛ حيث أصبحت من بين الدول التي تخوض هذه المعركة بعقلانية العلم وفعالية التكنولوجيا؛ لا فقط بسواعد الرجال وآليات التدخل الأرضي؛ لكن التحوّل الحقيقي والأكثر عمقًا؛ كان على مستوى الوعي المجتمعي؛ إذ بدأ الناس يُدركون أنّ النار ليست مجرد لهب عابر؛ وأنّ عود ثقاب صغير يمكن أن يُفجر كارثة بيئية؛ يلتهم الهكتارات ويُشرّد العائلات؛ ويقضي على مواسم بأكملها في دقائق معدودة،
الجزائر لم تنتصر بعد في معركتها مع النيران؛ لكنّها غيّرت موقعها في ساحة المعركة من رد الفعل إلى الفعل؛ من الفوضى إلى التنظيم؛ ومن الهلع إلى الحوكمة الوقائية؛ لقد دخلت زمن الإدارة المحترفة للمخاطر بدلًا من اللهاث وراء السيطرة عليها بعد وقوعها؛ هذه ليست خاتمة القصة؛ بل بدايتها؛ بداية مسار جديد ترسمه تقنيات الاستشعار عن بُعد وتؤمّنه أبراج الإنذار المبكر؛ ويقوده رجال الدفاع المدني بكفاءة؛ ويغذّيه وعيٌ جماعي متزايد بأنّ الغابة ليست مجرد مساحة خضراء؛ بل كيان حيّ نابض؛ هو جزء من حياتنا؛ ويستحق أن يُصان لا أن يُحرق.
إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.