أخبار بلا حدود- تعيش مدينة فرندة؛ ذات العمق الحضري والتاريخ التجاري العريق؛ وضعًا اقتصاديًا معقدًا؛ تعكسه ملامح التراجع التدريجي للأسواق المحلية وانكماش النشاط التجاري المنظّم؛ هذه المدينة التي كانت في السابق محورًا للتبادل الفلاحي ومركزًا لحركية تجارية مميزة داخل ولاية تيارت، تمرّ اليوم بمرحلة انتقالية تتسم بضعف في أداء الفضاءات الاقتصادية وركود في الدورة التجارية،
تتجلّى أبرز مظاهر هذا التراجع في غياب أسواق منظمة تعمل بكفاءة، مقابل اتساع رقعة النشاط التجاري غير النظامي؛ فقد أصبحت الأرصفة فضاءات بديلة للبيع العشوائي؛ حيث تُعرض السلع الاستهلاكية في ظروف تفتقر للتهيئة والبنية التحتية؛ هذا النمط التجاري الذي يعتمد على هامش الربح السريع خارج الأطر القانونية؛ يعكس اختلالات واضحة في توزيع النشاط الاقتصادي؛ ويطرح تحديات في ما يخص سلامة المستهلك؛ التنافسية؛ وجباية البلدية، في ذلك تشهد المدينة عزوفًا واضحًا عن استغلال المحلاّت التجارية النظامية؛ لا سيما تلك المندرجة ضمن مشاريع وطنية مهيكلة كمشروع “100 محل في كل بلدية”، المعروف شعبيًا بـ”محلاّت الرئيس”؛ على الرغم من توفّر هذه الفضاءات؛ التي صُمّمت في الأصل لتكون حاضنات لليد العاملة الشابة ومحرّكات للحركية الاقتصادية المحلية؛ إلاّ أنّها أصبحت مع مرور الوقت إلى مساحات مهجورة تفتقر إلى الوظيفة والتفعيل؛ بعضُها لم يعد يشهد أي نشاط تجاري؛ بينما استُغلّ البعض الآخر كملاجئ اضطرارية لعائلات أنهكتها أزمة السكن؛ فيما تحوّلت أخرى بؤرا تنخرها ممارسات إجتماعية منفلتة، في السياق ذاته؛ وضمن محاولة لاستدراك الجمود التجاري؛ رُصد غلاف مالي لتهيئة السوق الجواري بفرندة غير أنّ مشاريع التهيئة لم تتعدَ حدود الطلاء؛ فدون معالجة حقيقية لمكامن الخلل؛ بقي الفضاء على حاله؛ تحاصره مظاهر الإهمال من كل زاوية وتغيب عنه شروط النشاط التجاري الفعّال.
وفي الجهة الأخرى من المدينة؛ تستمر معاناة السوق الأسبوعي الذي كان يومًا ما القلب النابض للتجارة والحركة الاقتصادية؛ هذا السوق الذي كان يستقطب الزوّار والتجّار من مختلف نواحي تيارت والولايات المجاورة ويقدّم بانوراما فريدة من المنتجات الفلاحية من خضر وفواكه إلى المواشي والسلع الاستهلاكية وحتى الطب الشعبي والعطارة، لقد شكّل السوق الأسبوعي بفرندة على مرّ السنوات قلبًا نابضًا للحياة المجتمعية متجاوزاً وظيفته التجارية الضيقة ليؤدي دورًا جامعًا متعدد الأبعاد؛ لم يكن مجرّد مساحة للبيع والشراء؛ بل ميدانًا تُمارس فيه الطقوس الشعبية؛ وتُستعاد فيه ملامح الموروث الثقافي المحلي؛ لقد كان امتدادًا لحياة الناس؛ تتناغم فيه الأحاديث وتتقاطع العادات؛ وتتجدّد وشائج الانتماء في لوحة نابضة تُجسّد امتزاج الاقتصاد بالهوية؛ ليغدو السوق الأسبوعي ذاكرة جمعية حيّة؛ تنطق بخصوصية المكان وتُعبّر بصدق عن روح أهله وثقافتهم المتجذّرة،
أمّا الآن؛ فالسوق كخريطةٍ باهتة لا تعرف الزحام ولا تتقن لغة البيع؛ اليوم هذا الفضاء التجاري شبه فارغٍ؛ تحجبه العزلة وتخترقه خطوات متردّدة لعدد محدود من الزبائن؛ في مشهد يعكس إنحسار الحركية التي كانت تميّزه؛ فالتجّار فلم يتبقَّ منهم سوى قلّة لا تكاد تُعد؛ فيما إختار معظمهم الرحيل نحو أسواق أكثر نشاطًا وتنظيمًا؛ الساحة التي كانت يومًا تغص بالخيام والبضائع والحركة تحوّلت إلى مساحة شبه فارغة؛ فقدت روحها وملامحها القديمة؛ وكأنّها طويت صفحة من ذاكرة فرندة التجارية،
لم يكن التراجع الملحوظ للسوق الأسبوعي بفرندة نتيجة ظرف عابر أو إنحدار عفوي؛ بل هو نتاج تراكمات من الإهمال وتحولات تدريجية مست بنيته ووظيفته التي بدأت تتلاشى تدريجيًا تحت وطأة التقادم والتهميش؛ حتى انطفأت تلك الديناميكية التي كانت تميّزه وتمنحه طابعه الخاص؛ ورغم ما يُطرح من حين لآخر من دعوات رسمية لإحياء الأسواق الأسبوعية بوصفها موردًا استراتيجيًا يعزز مداخيل البلديات، إلا أن فرندة ظلّت على هامش هذا التوجه، تراقب بصمت اتساع فجوة العجز؛ في ظل غياب أي إجراءات فعلية تترجم تلك النوايا إلى واقع ملموس.
إنّ الانتكاسة التي تعرفها المدينة؛ من تراجع الأسواق إلى غلق المحلات؛ لا ترتبط فقط بسياقات آنية؛ بل تمثل تحوّلًا بنيويًا في وظيفة فرندة التجارية والاجتماعية؛ ففقدان الأسواق الأسبوعية لمكانتها وتحوّلها من نشاط اقتصادي إلى أطلال صامتة؛ يعني ضياع مصدرٍ جوهري لتمويل البلدية وتنشيط الحركية المجتمعية؛ كما أنّ إنقراض روح المبادرة لدى الشباب؛ خاصة في استغلال هذه الفضاءات؛ يشكّل معضلة أخرى قد تُفاقم من أزمة التشغيل وتغذّي مظاهر الركود، المشكلة الآن؛ ليست في غلق المحلاّت وحدها؛ بل في غلق الأمل، ليست في انسحاب التجار؛ بل في انسحاب الفكرة، ليست في تراجع السوق؛ بل في انكسار المدينة عن ذاتها،
اليوم المدينة ليس لها قلبٌ ينبض بالتجارة ولا عقلٌ يُخطّط لمستقبلها الاقتصادي؛ فما تبقى من فرندة؛ هو سؤالٌ معلق في الهواء: من يعيد الروح لهذه الأرض التي كانت في يومٍ ما سوقًا للأمل؟
فرندة؛ بجبالها؛ بتاريخها؛ بثقافتها؛ لا تستحق أن تُختزل في سوق ميّت ومقاهي مزدحمة؛ هذه مدينة يجب أن تُقاوم؛ أن تصرخ؛ أن ترفض أن تُختصر في مشهد باعة عشوائيين يحتلون الأرصفة؛ مدينة لا يليق بها أن تكون عالة على ذاكرة التجارة، فهي تحمل في تفاصيلها إمكانيات كامنة قابلة للاستثمار؛ فقط تحتاج إلى إعادة رسم ملامح النشاط التجاري بطريقة تواكب التحولات دون الانسلاخ عن الذاكرة المحليّة؛ فالأسواق ليست مجرد طاولات بيع؛ بل هي ثقافة؛ وهوية؛ وشبكة تواصل مجتمعي تتيح الفرص وتكسر العزلة؛ وإن كانت فرندة اليوم قد فقدت الكثير من بريقها؛ إلّا أنّ عودتها ليست مستحيلة؛ بل مشروطة بإرادة جديدة تنطلق من المواطن نفسه.
من وصيّة إلى منارة: كيف غيّرت مكتبة جاك بارك وجه فرندة الثقافي؟ – مقال محمد سبع
إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.