
أخبار بلا حدود- في المساحات الهشة من الوعي الجمعي؛ تنمو الظواهر كما تنمو الطفيليات على جذوع مهملة؛ واحدة من تلك الظواهر التي نبتت في شقوق الغفلة؛ وتحوّلت مع مرور الزمن من عرض جانبي إلى ورم اجتماعي فتاك؛ هي ظاهرة المخدرات في الجزائر؛ ليست المسألة هنا محصورة في استهلاك محلّي أو تجّار غير شرعيين؛ بل في تحوّل تاريخي معقّد حوّل البلاد إلى ما يشبه المختبر النفسيّ المفتوح، ففي وطنٍ خَطّ تاريخ استقلاله بالدماء وافتدى ترابه بالأنفاس؛ تتسرب اليوم سموم قاتلة في صمت؛ تفتك بشبابه وتنهش كيانه من الداخل؛ كمرض عضال ينخر الجسد الوطني ويهدّد الأمن المجتمعي والإنساني؛ لم يعد الحديث عن المخدرات مجرد مسألة جنائية أو طبية، بل صار معركة وجود؛ معركة بقاء.
بعد الاستقلال؛ لم تكن ظاهرة تعاطي المخدرات ذات زخم كبير؛ بل اقتصرت على بعض الحالات المعزولة؛ وكانت الأرقام المسجلّة حينها قليلة لكنها دالة؛ ففي عام 1975 تم حجز نحو ثلاثة أطنان من القنب؛ تلتها عملية مماثلة سنة 1989 أسفرت عن حجز طنين من نفس المادة؛ غير أنّ عقد التسعينيات والذي صاحبه عشرية سوداء؛ مثّل نقطة التحوّل المأساوية التي فجّرت الظاهرة مع انهيار المنظومة الأمنية والاجتماعية وتفكّك الحصانة الجماعية أمام الظواهر المنحرفة، بحلول عام 1994 تم حجز ما يقارب 1.5 طن من القنب الهندي رقم سرعان ما تضاعف بشكل مرعب في 2008 ليبلغ 38 طنًا بحسب إحصائيات الديوان الوطني لمكافحة المخدرات؛ هذه القفزة ليست سوى انعكاس مباشر لتحوّل الجزائر إلى منطقة إستهداف من قبل شبكات التهريب الدولية التي أحسّت بالفراغ الأمني والضعف المؤسساتي؛ فوجدت منفذها لتفكيك المجتمع من الداخل.
- شرايين التهريب… من المغرب إلى ليبيا فالكاريبي
فبينما كان الخطاب العام يتحدث عن تعافي البلاد من الإرهاب؛ كانت مسارات أخرى تتشكل بهدوء؛ أقل ضجيجًا؛ لكنّها أكثر فتكًا؛ فحدود الوطن لم تعد خطوطًا حمراء بل أصبحت ممرات خضراء ممرًا لسموم قادمة من المغرب؛ في كل أسبوع تنشر وزارة الدفاع الجزائرية تقارير عن إحباط شحنات بالقناطير، قناطير من الكيف المعالج تتسلّل كالأشباح عبر الجبال والوديان؛ ولعّل اكبر محاولة تهريب والتي أحبطت من طرف وحدات الجيش الوطني الشعبي؛ كانت في شهر جانفي الماضي؛ محاولة لتهريب 2.5 طن؛ إنهّا الكمية الأكبر التي حاول المهرّبون تمريرها دفعة واحدة؛ وكأنّها “طلبيّة جملة” موجهة لسوق داخلية تعرف زبائنها جيدًا؛
أما الأخطر من ذلك فإنّ الجنوب الجزائري يجاور منطقة الساحل، الموصوفة بأنّها “غارقة في الجريمة المنظمة”؛ حيث ساهمت الانقلابات والانهيارات السياسية في دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر؛ في تحوّلها إلى بؤر مفتوحة أمام تهريب السلاح والمخدرات والبشر؛ الجماعات الإرهابية هناك؛ بحسب تقارير دولية تعتمد على هذه التجارة لتمويل نشاطاتها،
أمّا الحبوب المهلوسة؛ فمصدرها في الغالب يأتي من شرق إفريقيا عابرًا ليبيا؛ في ظل الفوضى الأمنية هناك؛ أمّا الموانئ تحوّلت إلى نقاط عبور الكوكايين والهيروين؛ يصلان عبر شبكات دولية تمر بإسبانيا كمنصة عبور رئيسية بين أمريكا الجنوبية والضفة المتوسطية.
- حبوب الهروب من الواقع
الحديث عن “المخدرات” لم يعد مقتصراً على القنب أو الحشيش، بل بات يشمل قائمة طويلة من المؤثرات العقلية التي تأخذ أشكالاً ومسميات مزيفة بين “البريغابالين”؛ “ليريكا”؛ “ترامادول”؛ و”الصاروخ”؛ يعيش جزء من شباب الجزائر تحت تأثير وهمي قاتل؛ فالحبوب المهلوسة التي كانت تُصنع أصلاً كمسكنات لآلام مستعصية؛ تحوّلت إلى طريق مختصر نحو الضياع؛
قد أكدت بحوث صدرت عن المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا أنّ أعمار المدمنين على المؤثرات العقلية هم من الفئة العمرية ما بين 18 و35 سنة؛ ما يعيدنا إلى معادلة أخرى: حين يغيب الأفق الاجتماعي ويغيب المعنى يتدخل البديل الكيميائي ليملأ الفراغ؛
ما يقارب 3 ملايين جزائري يتعاطون المخدرات؛ من بينهم نسبة 3٪من النساء؛ بحسب دراسة ميدانية للديوان الوطني لمكافحة المخدرات؛ هذا الرقم يُدق ناقوس الخطر، فالأمر لم يعد حكرًا على الذكور أو على أحياء هامشية فقط؛ فالتحوّلات الاجتماعية الأخيرة، وخاصة ما بعد الجائحة أظهرت أن الفئات المستهدفة باتت تشمل طلبة الجامعات وتلاميذ المدارس؛ حيث بات المروجون يتمركزون حول المدارس؛ يستهدفون القُصر بأقراص مخدرة ومغلفة بأسماء مغرية مثل “الزرقاء” و”الحمراء” و”التاكسي”،
أمّا اقتصاديًا تندمج هاته التجارة في نسيج السوق غير الرسمية؛ حيث تلعب دورًا مزدوجًا: تمويل أنشطة غير شرعية وتوفير مداخيل سريعة لفئات مهمشة؛ ففي بعض الأحياء الشعبية يُنظر إلى بيع الأقراص المهلوسة كوظيفة يومية لا تختلف عن أي نشاط آخر.
- الدولة في المواجهة
أعلنت مختلف الأجهزة الأمنية؛ من الجيش الوطني الشعبي؛ والدرك؛ والأمن الوطني؛ والجمارك؛ عن إطلاق عمليات وطنية لإتلاف المخدرات المحجوزة؛ وذلك وفق معايير صارمة تضمن شروط السلامة والبيئة؛ ويأتي هذا التحرك في سياق مواجهة تصاعد غير مسبوق لتجارة السموم؛ وقد سجّل الديوان الجزائري لمكافحة المخدرات وإدمانها حصيلة ثقيلة خلال سنة 2024 بلغت60.5 طناً؛
أمام هذا المدّ الجارف؛ تحرّكت الدولة الجزائرية على أكثر من جبهة؛ وأطلقت حربًا شاملة للردع والتوعية والعلاج مع تركيز خاص على حماية المؤسسات التعليمية؛ حيث قفز المشرّع الجزائري إلى الأمام وراجع القوانين بصرامة أكبر؛ خاصة مع مشروع قانون مكافحة المخدرات الجديد؛ الذي شدّد العقوبات على مرّوجي السموم؛ لا سيما في محيط المدارس؛ حيث تصل العقوبة إلى الإعدام؛ كما فرض تقديم شهادة عدم تعاطي المخدرات على كل المتقدمين للتوظيف في المؤسسات العمومية؛ كما تضمن المشروع منح مكافأة مالية لمن يبلغ عن المروجين؛ لما لها من فعالية في تفكيك الشبكات الإجرامية خاصة داخل الأحياء،
ولم تغفل التشريعات جانب العلاج؛ إذ خصّصت فصلاً كاملاً للتدابير العلاجية وأجازت إخضاع المتهمين لعلاج طبي بدلاً من الملاحقة القضائية؛ إذا ثبت أنّهم تحت المتابعة الطبية؛ وبهذا تكون الجزائر قد تبنت مقاربة مزدوجة: الردع والعلاج؛ إلى جانب ذاك أنشأت الدولة أربعة مراكز جهوية حديثة لعلاج الإدمان، أبرزها المركز الوطني للوقاية من المخدرات ومكافحتها بغابة بوشاوي ومركز البليدة الذي يعالج سنوياً أكثر من 17 ألف مدمن؛ وفي موازاة ذلك،؛ تنظم وزارة الشباب حملات توعوية؛ وتشارك المساجد والمؤسسات التربوية والثقافية والرياضية في العمل التحسيسي؛
يضاف إلى ذلك جهد المجتمع المدني عبر 355 جمعية مختصة في مرافقة المدمنين؛كما تم إعتماد فهرس وطني إلكتروني للوصفات الطبية الخاصة بالمؤثرات العقلية لتشديد الرقابة على مسارات توزيع هذه الأدوية وإغلاق الثغرات القانونية والطبية.
الجزائر لم تعد تنظر إلى المخدرات كظاهرة داخلية فقط، بل تراها آفة عابرة للحدود؛ لذلك دعت إلى تنسيق دولي شامل، وشدّدت على الالتزام بالاتفاقيات الأممية لمراقبة المخدرات؛ كما أكدّت السلطات على أن مكافحة المخدرات لا تقتصر على القبضة الأمنية؛ بل تشمل أيضًا التكوين؛ التوعية؛ العلاج؛ والتعاون الإقليمي والدولي.
ما يجري ليس مجرد انفلات أخلاقي؛ بل مخطط منظم لضرب استقرار البلاد عبر تفكيك شبابها وتحويلهم إلى كائنات تائهة تتنفس الأوهام وتقتات على الهلوسة؛ المعركة ضد المخدرات في الجزائر هي معركة طويلة؛ متشعبة ومكلفة؛ إنّها ليست فقط قضية أمن؛ بل قضية جيل؛ وطن؛ وسيادة، ففي كل قرص مهلوس قصة خراب وفي كل غرام كوكايين ثقب في جسد الوطن؛ الجزائر تقاوم من التشريع إلى التوعية؛ من الحجز إلى الإحراق؛ من السجن إلى المصحة؛ ويبقى الرهان الأكبر على وعي المجتمع وتماسك الأسرة؛ ودور المدرسة والمسجد، فالمستقبل لا يُبنى بجيل مُنهار؛ بل بجيل صامد؛ نظيف؛ واعٍ؛ ومحصّن من الداخل.
إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.