
أخبار بلا حدود- ذات خريف من سنة 1980؛ وُلدت بذرة علم في تراب تيارت؛ لا على عجلٍ ولا صدفة؛ بل على مهلٍ تكتبها الإرادة؛ وتصوغها الحاجة إلى منارة فكرية في هذا الإمتداد الجغرافي المتطلع إلى النهضة، أكثر من ألف ومئتي طالب شكّلوا أول قافلة من الحالمين الذين عانقوا بوابة المركز الجامعي الوليد؛ الذي لم يكن حينها سوى حجر الأساس في صرحٍ ستتشعب ممراته لاحقًا بين المعاهد والكليات والمخابر؛ ليمتدّ كجذع نخلةٍ باسق؛ لا يركن إلى الظل؛ بل يصنعه،
في منتصف الثمانينيات؛ تقاطعت خُطى المركز مع مسار التحولاّت الوطنية في التعليم العالي؛ فانقسمت البذرة إلى معهدين؛ أحدهما يحرث الأرض علمًا؛ والآخر يشيّد البنيان هندسة، ومرّت الأعوام؛ فإجتمع الشتات من جديد في سنة 1992تحت سقف واحد؛ وإنبعث المركز الجامعي بعزيمة لا تكلّ؛ حتى جاء مرسوم 2001 ليُعلن المولد الرسمي لجامعة ابن خلدون؛ باسم يحاكي عبقرية المؤسس ويجسد همّ التأسيس؛لم يكن إختيار الاسم وليد عبث أو تقليد ثقافي سائد؛ بل إستدعاء واعٍ لذاكرة فكرية وروحية عميقة؛ فابن خلدون، الذي مرّ من صخور فرندة وتوغّل في جبال تاوغزوت؛وترك آثارًا في كهفها؛عاد من جديد رمزًا جامعًا في إسممؤسسة أكاديمية؛ كأنّ المكان أراد أن يرد له الجميل عبر الأجيال، ثم تلاحقت التحولاّت؛ كما لو أنّ الزمن نفسه قد أراد لها أن تسبقه، فإنطلقت الكليات تتعاقب كمواسم الخير؛ وتناسلت المعاهد كما تنمو الضلوع حول قلب نابض، وفي عام 2013؛ أُعيد رسم الخارطة الأكاديمية على نحو أكثر إتساقًا ونضجًا؛ حتى غدت الجامعة صرحًا علميًا مترامي الأجنحة؛ يضمّ ثماني كليات ومعهدًا واحدًا؛ فتعدّدت بها الاختصاصات وتمازجت؛ كما تتمازج ألوان الطيف في لوحة المعرفة الإنسانية؛ من علوم التكنولوجيا والهندسة والإعلام الآلي؛ إلى علوم الحياة بما فيها من كيمياء وفيزياء وأحياء؛ ومنها إلى العلوم البيطرية؛ فالعلوم الاقتصادية والتجارية والقانونية؛ ثم آداب اللغة وأسرارها؛ بلغاتها الحيّة وتراثها الخالد؛ وصولًا إلى علوم الإنسان والمجتمع؛ بفروعها المتشعبة وآفاقها الرحبة، إنّها فسيفساء معرفية متكاملة تتجلّى في قلب هذا الصرح العلمي بعقلٍ حيّ وروحٍ طموحة؛ حيث تتآلف التخصصات كما تتآلف النجوم في مجرّة الفكر؛ وتنهض الأجيال على أرضٍ خصبة من العلم والرؤى،
غير أنّ الجامعة لم تكتفِ بما أنجزته بين جنباتها؛ ولم ترضَى لنفسها حدودًا تقف عندها؛ بل حملها الطموح على جناحي التوسّع؛ فانطلقت في آفاق الجغرافيا تُرسل جذورها حيث تتأجّج الحاجة إلى العلم. فمدّت ذراعيها الحاضنتين إلى كل من السوقر وقصر الشلالة؛ حيث أنشأت ملحقتين جامعيّتين؛ في خطوة تجسّد رؤيتها اللامركزية؛ وإيمانها العميق بأنّ المعرفة يجب أن تُزرع في كل ربوع الوطن؛ وتُتاح لكل طالب شغوف؛ مهما إبتعد عن المركز؛ هكذا واصلت الجامعة رسالتها؛ لا كفضاء للتعليم فحسب؛ بل كمشعل يضيء الدروب ويقرب المسافات ويمدّ جسور المعرفة إلى عمق ولاية تيارت والولايات المجاورة؛ جامعة لا تعرف الضيق؛ بل تتّسع لطلبتها بعناق علمي؛ وبسخاء الفكرة لكل العابرين في دروب المعرفة،
في سطور هذه المسيرة؛ تتبدّى ملامح ثورة هيكلية ومعرفية؛ حين أزهرت الجامعة بإحدى ألذ ثمارها العلمية، وذلك بإدراج تخصص الطب في هيكلها الأكاديمي خلال الموسم الجامعي 2024-2025؛ مستقطبًا في باكورة دفعاته أكثر من 400 طالب؛ إصطفّوا على عتبة الحلم بقلوب يملؤها الطموح، وقد خُصّص لهذا التخصص فضاءٌ مستقل؛ مُهيّأ بكل ما يلزم من كفاءات بشرية ووسائل مادية؛ فلم يكن إمتدادًا عابرًا أو جناحًا إضافيًا؛ بل تشكّل في صورة ملحقة جامعية متكاملة البنية؛ تستقل بذاتها وتنهض بوظيفتها العلمية بكل ما يليق بمقام الطب ومكانته، خطوةٌ أكدّت أنّ جامعة تيارت لم تعد مجرد مؤسسة تعليمية؛ بل مشروع مجتمعي شامل؛ يتنفس الواقع ويستجيب لحاجات الساعة،وهكذا أصبح للجامعة ثلاث ملاحق تُشبه الشرايين النابضة في جسد واحد؛ تنثر المعرفة بهدوء وعمق؛ كما تُنثر النجوم في مداراتها؛ دون ضجيج؛ لكنّها تملأ الأفق ضياءً وأملًا،
تتوفر الجامعة اليوم على طاقة إستيعاب تفوق 29.000 مقعد بيداغوجي؛ وتستقطب ما يقارب 30.000 طالب من مختلف المشارب؛موزعين على مختلف الأطوار؛ كما أصبحت قبلةً لطلبةٍ من جنسيات متعدّدة؛ وفدت إليها من وراء الحدود؛ ليتعلّموا على أرضٍ كانت بالأمس مثخنة بالجراح؛ فإذا بها اليوم تنهض وتُعلّم؛ تبثّ العلم كما تُبثّ الحياة؛ وتخطّ بمداد المعرفة فصلاً جديدًا من فصول التحدي، وفي خلفية هذا المشروع الحضاري؛ تقف نخبةٌ بشرية تتجاوز ثلاثة آلاف مستخدم؛ بين أساتذة باحثين وإداريين وعمّال؛ يشكّلون الدعامة البشرية التي تنهض عليها الجامعة؛ وتُسند بها مشروعها التكويني والعلمي والإداري، وقد أولَت هذه الطاقات كلّ العناية والرعاية؛ إذ حرصت المؤسسة على صقل مهاراتهم وتعزيز قدراتهم؛ عبر مساراتٍ تكوينية نوعية؛ وفضاءاتٍ فكرية غنية، فكانت الملتقيات الوطنية والدولية؛ والندوات العلمية؛ محطّاتٍ للحوار والتفاعل ومنابر لتبادل الخبرات والمعارف، ولم يقتصر هذا المسعى على الفضاء الداخلي؛ بل تجاوز الحدود؛ حيث فُتحت أمام مختلف الأسلاك؛ من أساتذة وإداريين؛ فرص التربص والإقامة العلمية قصيرة المدى خارج الوطن؛ في رؤًى مدروسة تهدف إلى ترقية الأداء البيداغوجي؛ وتطوير النظم الإدارية؛ ودفع عجلة البحث العلمي نحو مزيد من الجودة والتأثير،
الجامعة صارت اليوم بيئة معرفية تفاعلية؛ تحاكي روح العصر؛ تستنبت التخصصات حيثما إقتضى العقل والإحتياج؛ فتفرعت خارطة التكوين إلى 143 عرضًا ضمن نظام “ل.م.د” والتكوين الكلاسيكي؛ توزعت على 12 ميدانًا علميًّا و38 شعبة؛ أحدثها تكوين أساتذة التربية في مختلف الأطوار؛ وفق حاجة المدرسة الجزائرية؛ وتوجهات الدولة في تأهيل الكفاءات التربوية وتطويرها على نحو مستمر؛ بما يضمن تجديد الرؤية التربوية والإرتقاء بالأداء التعليمي إلى مستويات أعلى من الجودة والفاعلية،
مرافق الجامعة ليست مجرد قاعات ومدرجات؛ بل هي إمتداد لفلسفة تربوية تستوعب العلم في أوسع معانيه، ففي أحضانها؛ تنبض مزرعة نموذجية خُصّصت بعناية للدراسات التطبيقية في مجال الصحة الحيوانية؛ حيث يتحوّل الدرس إلى ممارسة؛ ويتعانق الاجتهاد النظري مع التجريب الحقلي؛ في فضاء يرقى بالطالب إلى مدارج التكوين المهني الراسخ، وإلى جانبها؛ يتجلّى المركز السمعي البصري؛ لا كمجرد وسيلة تقنية؛ بل كرافد معرفي يُثري الحقل البيداغوجي؛ ويسهم في دعم الأنشطة التعليمية والبحثية والثقافية؛ حيث تتقاطع الصورة مع الفكرة؛ وتتلاقى الوسائط الحديثة مع المضمون الأكاديمي؛ في تجربة تعليمية متكاملة تفتح آفاقًا جديدة أمام الطالب والمُؤطّر على حدّ سواء،
كما تحتضن الجامعة مركزًا مكثفًا للغات؛ يؤسس للتكوين وفق الإطار المرجعي الأوروبي؛ فيجعل من اللغة جسرًا للتواصل الحضاري؛ ومفتاحًا يربط الطالب بالعالم؛ ويُهيّئه للتفاعل مع مجتمع المعرفة بأدوات العصر،
وفي قلب البنية التكنولوجية؛ يتربّع البهو التكنولوجي؛ كمرفق إستراتيجي يُسند الهياكل تقنيًا؛ ويضمن إنسياب الأعمال التطبيقية والموجّهة في ميدان العلوم الدقيقة؛ من خلال تسيير وصيانة التجهيزات المتطورة؛ في منظومة تحتفي بالدقة وتكرّس الجودة،
أمّا المكتبة المركزية؛ فهي روح المعرفة النابضة؛ لا يحدّها جدار ولا يقيّدها زمن؛ تفتح أبوابها الورقية والرقمية على مصراعيها أمام الباحثين؛ وتوفّر منظومات حديثة للفهرسة والولوج العلمي عبر منصات كـSNDLوCCDZوDSpace؛ في مشهد يؤكد التزام الجامعة بتيسير المعرفة وتعبيد دروب التميّز العلمي بخطى ثابتة ورؤية مستنيرة،
كما أنّ البحث العلمي لا يُعدّ مجرّد مكمّل للعملية البيداغوجية؛ بل هو عصبها النابض؛ ومرتكزها الراسخ، فهو منظومة متكاملة تتكئ على 29 مخبرًا بحثيًا؛ تحتضن وتؤطّر أكثر من 670 طالب دكتوراه؛ يمضون في مسارات علمية متشعّبة؛ تنهل من ينابيع الزراعة؛ وتمرّ عبر بوابات التكنولوجيا؛ وتتعمّق في قضايا الأمن الغذائي؛ كما تلامس عوالم القانون؛ الفيزياء؛ علم النفس؛ والعديد من التخصصات المتقاطعة، ولا تقف هذه البحوث عند حدود التنظير؛ بل تنغرس في عمق الإشكالات الحقيقية للمجتمع؛ فتخوض في قضايا الماء والفلاحة والطاقات المتجددة والذكاء الاصطناعي؛ مساهمةً في رسم ملامح تنمية محلية وجهوية أكثر وعيًا وفاعلية، إنّه بحث علمي لا يكتفي بمُراكمة المعرفة؛ بل يسعى لتحويلها إلى أدوات عملية؛ وقرارات إستراتيجية؛ تضيء درب المستقبل بعقول جزائرية خلاقة،
منارة التكوين هاته؛ لم تحصر رسالتها في أروقة التكوين فحسب؛ بل إتخذت من البحث والتجريب أفقًا مفتوحًا لا يعرف السكون؛ تغترف من معين التجارب وتخوض غمار التعاون المعرفي بكل جرأة وإنفتاح، فقد أبرمت شراكات علمية تتجاوز تضاريس المكان واللغة؛ مع أربع وثلاثين مؤسسة بحثية موزعة عبر خمس عشرة دولة؛ من أوروبا إلى العالم العربي؛ دون أن تغفل عن نسج شبكة تعاون وطني واسعة مع قطاعات البحث والإنتاج والخدمات، تلك الروابط التي نسجتها الجامعة؛ لم تكن مجرد إتفاقيات؛ بل جسور عبور نحو عالمٍ أكثر تفاعلاً وتبادلاً،
هذه المؤسسة التي شُيّدت في هدوء الجغرافيا؛ إختارت أن تكون في قلب الرقمنة؛ فأعتنقت سياسة “صفر ورقة”؛ وأنشأت منصات رقمية للطلبة والأساتذة والإداريين؛ دعمت بها تعلُّمًا أكثر مرونة؛ وبحثًا أكثر إنسيابية؛ وإدارة أكثر فاعلية، وإستجابةً لتطلعات الجزائر الجديدة؛ وتنفيذًا لتوصيات الوزارة الوصية؛ خطت جامعة إبن خلدون بتيارت خطوة نوعية في مسارها الأكاديمي؛ متجاوزة حدود التكوين الكلاسيكي نحو آفاق الريادة والابتكار، فقد تحوّلت إلى فضاءٍ حاضن للأعمال الإبداعية والمبادرات الطلابية الطموحة؛ عبر إنشاء حاضنة أعمال تُعنى بإستقطاب وتوجيه أصحاب الأفكار الخلّاقة،؛ والعمل على تحويل إبتكاراتهم إلى مشاريع إقتصادية منتجة؛ قابلة للنمو والتوسع؛ تُفضي إلى ميلاد مؤسسات ناشئة (Start-up) تسهم في خلق الثروة؛ وتنويع مصادر الدخل؛ وتعزيز القدرة التصديرية للبلاد،
وفي موازاة هذا التوجّه؛ تمّ إنشاء مركز لتطوير المقاولاتية بالجامعة؛ سطّر منذ إنطلاقه مسارًا تكوينيًا متكاملًا؛ شمل 17 دورة تكوينية و15 ورشة تطبيقية، مهّدت السبل أمام الطلبة لصقل أفكارهم؛ وتنقيح مشاريعهم وتطوير مهاراتهم في الريادة؛ فكان هذا المركز بمثابة الحاضنة الفكرية والعملية التي تحتضن الطموح؛ وتحوّل الرؤية إلى مشروع، والحلم إلى مؤسسة؛ والفكرة إلى قيمة اقتصادية مضافة،
لم تعد الجامعة تكتفي بمنح الشهادات وتخريج الطلبة؛ بل أضحت تصنع الوعي الاقتصادي الجديد؛ وتحرّر الطاقات الشابة من أسر الانتظار إلى أفق المبادرة؛ فاتحةً أمامهم أبواب الإنتاج والإبتكار والمنافسة، وقد تخرّج خلال هذا الموسم عشرات الطلبة الذين غادروا مدرّجات الجامعة لا بوصفهم باحثين عن وظيفة؛ بل بوصفهم مؤسِّسين لمؤسسات ناشئة؛ تحمل بذور التحوّل الاقتصادي وتشكّل ملامح الغد الواعد،
وما يميز هذه الجامعة كذلك هو بعدها الإنساني العميق؛ فهي ليست فقط مؤسسة لتلقين المعارف؛ بل فضاء للتفاعل الثقافي والاجتماعي؛ إذ تحتضن سنويًا عشرات النشاطات العلمية؛ التكوينية؛ والرياضية؛ وتعد حاضنة لنسيج من النوادي الطلابية الفاعلة؛ التي تسهم في نشر الوعي والابتكار،
هذه هي جامعة ابن خلدون بتيارت… ليست مجرد منشأة تعليمية تُدرَج ضمن قوائم الإحصاء؛ بل كيانٌ حيّ ينبض بفكر مؤسسي عميق؛ وبصيرة قيادية راسخة؛ وحنكة تسييرية أدركت منذ البداية أنّ الرهانات الكبرى لا تُربح بالمصادفة؛ بل تُدار بالكفاءة والعزيمة، من مركزٍ جامعي ناشئ إلى قطبٍ علميّ مشعّ غرب البلاد؛ خطّت الجامعة مسارها بعقلانيةٍ لا تهادن؛ ورؤيةٍ لا تنكفئ؛ وإدارةٍ آمنت بأن التميّز لا يُشترى؛ بل يُبنى، فقد صاغت القيادة الأكاديمية معالم نضجها بهدوء العارفين؛ فكانت خُطط التنمية أكثر من شعارات؛ وكانت القرارات ثمرة تحليلٍ وإستشراف؛ لا ردود أفعال آنية، ومع كل عام؛ إزداد البناء صلابةً وإتزاناً؛ فمن قاعات التدريس إلى دهاليز الإدارة؛ ومن مختبرات البحث إلى مكاتب التسيير؛ تتشابك الجهود؛ ويتناغم العمل؛ ليصنع من هذا الصرح منارةً فكريةً ؛ وبيتًا للمعرفة لا يُغلق بابه؛ ووعدًا معرفيًا يتجدّد كل يوم.
لهيب شوشاوة تحت السيطرة… بتضافر الأبطال في البرّ والجوّ – مقال محمد سبع
إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.