أخبار عاجلة

الجفاف تراجع والدولة تضخ الحياة.. تيارت تُكافأ بصبرها وتُروى بعرق المشاريع الكبرى! – مقال محمد سبع

سبع محمد
 

أخبار بلا حدود- لم تكن تيارت في صيف 2024 مدينة عطشى فحسب؛ بل كانت مقياسًا جديدًا لمدى جاهزية الدولة الجزائرية أمام أزمات الحياة الأساسية؛ بين سد جاف، وحنفيات صامتة، وصهاريج تتمايل تحت شمس لاهبة؛ لم تكن شمس تيارت تكتفي بالحرارة؛ بل كانت تذيب ما تبقى من صبر سكانها؛ الذين استيقظوا ذات صباح على واقع عطِش؛ جاف؛ ومُقلق، سد بن خدّة شريان الولاية المائي الذي لم يخذل الولاية لعقود؛ قبل أن يُعلن إفلاسه المائي؛ توقّف عن النبض بعدما جفّت عروقه التي كانت تمد الرحوية؛ المهدية؛ مشرع الصفا والدحموني وغيرهم بقطرات الحياة، مشاهد لا تشبه سوى زمن القحط؛ زمن ولدت فيه أزمةٌ لم ترحم، تزامنت مع حرارة الصيف وأيام عيد الأضحى؛ وأمام ارتفاع حناجر السكان بالاستغاثة والإحتجاجات؛ وقفت صهاريج نقل المياه وجهاً لوجه مع طوابير العطاشى؛ تتقاسم معهم ضيق الزمان وحرج المقام.

في هذا المشهد المأساوي؛ لم يكن أمام الدولة إلا أن تتصرف بسرعة ولكن بجدّية غير مسبوقة؛ فلم تكن البيانات وحدها كافية؛ ولا التصريحات المُنمّقة تروي الظمأ، فبينما كانت الشوارع تمتلئ بالدلاء والمتاريس والحجارة والعجلات؛ كانت الحكومة تتحرّك بخطوات متسارعة في محاولة لتدارك الوضع؛ إذ أمر رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون آنذاك بوضع برنامج استعجالي شامل بعد اجتماع طارئ لمجلس الوزراء؛ أطلق على إثره سباقًا مع الزمن لإنقاذ تيارت؛ فتم إيفاد وزراء ومسؤولين كبار إلى تيارت؛ نزلوا إلى الميدان؛ وعادوا بخطط لا بخطب.

ولأن العطش لا ينتظر بدء الأشغال؛ كان لابد من حلول آنية؛ فأستُخدم أسطول ضخم من الصهاريج تجاوز 104 شاحنات من مختلف الولايات؛ سخّرت يومياً لتوزيع الماء على الأحياء والقرى، إلى جانب ذلك فقد فعّلت وزارة الموارد المائية خلية يقظة خاصة بتيارت؛ تتابع الخدمة العمومية للمياه وتحلّل الأرقام وتتدخل عند الحاجة، وفي موازاة ذلك؛ تحرّك مشروع تحويل مياه الشط الشرقي والذي يزخر بمكيات وافرة من المياه، وذلك على مسافة 42 كلم ليغذي الجهة الشرقية للولاية، كما تم التدعيم بـ38 ألف متر مكعب إضافي من خلال حفر آبار جديدة بإجمالي أطوال ناهز 12.500 متر وآبار استكشافية إضافية بطول 4000 متر بمناطق الرحوية؛ سيدي بختي؛ ومشرع الصفا؛ كل هاته المشاريع؛ ضاعفت من قدرة التزويد وبدأت مياه الحنفيات تعود تدريجياً، وفي مظهر غير مألوف؛ حرصت وحدة تيارت “الجزائرية للمياه” على نشر برامج التوزيع بشكل يومي؛ لتكسر جدار الصمت ولتطمئن بها المواطن ولتعيد بناء الثقة المفقودة بين الإدارة والمجتمع.

ولعلّ أجمل بشائر الفرج تجلّت في مشروع “عجر ماية”؛ الذي خرج من صمت الجغرافيا إلى صخب الإنقاذ مشروع لم يكن مجرد أنابيب تُمدّ؛ بل شريان حياة جديد يمتد من عمق حوض المياه الجوفية الواقع بين زمالة الأمير عبد القادر وسرغين؛ وصولاً إلى 11 بلدية عطشى على طول 127 كيلومتراً تتخللها 19 بئراً عميقة؛ وأُنشئت أربع محطات ضخ في كل من عجر ماية؛ الرشايقة؛ عين بوشقيف ومدينة تيارت لتأمين تدفق يومي يقدر بـ34 ألف متر مكعب؛ حيث بلغت تكلفة إنجازه 6.5 مليار دينار؛ وقد تم إستلام ست مضخات مع بداية شهر ماي والشروع في تركيبها على مستوى المحطات الأربع؛ إذ لا زالت الأشغال على قدم وساق من أجل البدء في التجارب الأولية قبل نهاية الشهر الحالي؛ هذا وقد شُيد أيضا خزان مائي ضخم في قصر الشلالة بسعة 10 آلاف متر مكعب ليكون المخزن الاحتياطي في حال تعطل السيل.

الأزمة لم تكن محلية فقط؛ ما عاشته تيارت كان إنذاراً وطنياً، فالرؤية الحكومية تجاوزت حدود تيارت و امتدت إلى الجزائر بأكملها، فكانت تحلية مياه البحر خيارًا استراتيجياً لا ترفًا؛ ففي خطوة نوعية نحو تحقيق السيادة المائية؛ دشنت الجزائر خمس محطات جديدة لتحلية مياه البحر في ظرف خمسة أيام فقط، بطاقة إنتاجية تُقدَّر بـ300 ألف متر مكعب يومياً لكل محطة؛ وتوزعت هذه المنشآت الاستراتيجية على ولايات: تيبازة (فوكة)؛ بومرداس (كاب جنات)؛ الطارف (كدية الدراوش)؛ بجاية (تيغرمت)؛ ووهران (الرأس الأبيض)؛ ضمن رؤية وطنية طموحة لتأمين الموارد المائية، وبإتمام هذا المشروع ستعزز الجزائر مكانتها على الخارطة المائية الإقليمية؛ حيث ستتبوأ الريادة على مستوى القارة الإفريقية وتحتل المرتبة الثانية عربياً بعد المملكة العربية السعودية؛ بإجمالي قدرة إنتاجية يومية تبلغ 3.7 مليون متر مكعب من المياه المحلاة.

كما لم تُغفل الدولة الحلول المستدامة؛ حيث شجعت على إعادة استعمال المياه المعالجة في السقي وتوسعة السدود وتنفيذ برامج سقي تكميلي للحبوب؛ لا سيما في المناطق الشمالية المتأثرة بتذبذب التساقطات؛ كما استثمرت في وعي المواطن من خلال حملات ترشيد الاستهلاك التي بدأت تزهر في سلوك الناس.

لقد كانت تيارت؛ خلال العام الماضي ورقة اختبار صعبة ورغم قساوة الامتحان؛ نجحت جهود السلطات في إعادة رسم معالم الطمأنينة على وجوه السكان؛ الآن تيارت تتنفس الصعداء؛ فالمياه عادت؛ صحيح أنّها تصل وفق برنامج توزيعي؛ لكنّها تصل؛ فالحنفيات لم تعد جافة وأهل الولاية؛ بعد أن جربوا مرارة الجفاف؛ صاروا أكثر تقديراً لقطرة الماء وأكثر انتباهاً لسلوكهم الاستهلاكي،

تجربة تيارت أكدت أنّ الأمن المائي ليس مجرد ترف تنموي؛ بل عمق سيادي؛ لا يقل أهمية عن الغذاء والدواء، وما أظهرته الحكومة الجزائرية من جاهزية؛ سواء في الإنقاذ العاجل أو في التخطيط البعيد؛ يُعدُّ مؤشرًا على تحوّل نوعي في طريقة تسيير ملف المياه في البلاد، فبين هدير المضخات وعمق الآبار؛ وبين قسوة الجفاف وعودة الماء إلى مجاريه؛ تشكّلت تجربة جزائرية فريدة في مقاومة العطش؛ تجربةٌ جديرة بالتأمل والتطوير.

في حرب المخدرات… الجزائر تقاتل على كل الجبهات – مقال محمد سبع

محمد سبع – الجزائر

حقوق النشر :

إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.

نموذج الإتصال

أية استفسارات أو نقاشات يرجى طرحها أسفله في خانة التعليقات و المناقشات.

شاهد أيضاً

سبع محمد

في حرب المخدرات… الجزائر تقاتل على كل الجبهات – مقال محمد سبع

أخبار بلا حدود- في المساحات الهشة من الوعي الجمعي؛ تنمو الظواهر كما تنمو الطفيليات على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!