عيد الأضحى …حين يفوح الإيمان من دم الأضاحي – مقال محمد سبع

سبع محمد

أخبار بلا حدود- في رحاب أيّام عشر ذي الحجة المباركة؛ تتجلّى عظمة الشعائر التي أقامها الله تعالى لعباده؛ وأبرزها شعيرة الحج الأكبر؛ ويوم عرفة؛ وعيد الأضحى المبارك، حيث تتضافر النفوس وتتلاقى القلوب على حب الطاعة والعبادة، ففرح هذه الأيام ليس فرحًا دنيويًا محصورًا في الملذات؛ بل هو فرح القرب من الله وبلوغ رضاه؛ وعيش تجربة روحية سامية؛ فالمسلم الذي أدّى فريضة الحج في هذه الأيّام يفرح بما أنجزه من واجب ديني عظيم؛ ومن لم يحج في هذه السنة يفرح أيضًا بما يؤديه من طاعات وقربات في هذه الأوقات العظيمة؛ حيث تفتح أبواب الرحمة والمغفرة،

ومن أرفع شعائر عيد الأضحى وأهمها أداء الأضحية؛ وهو اليوم العاشر من ذي الحجة؛ حيث يذبح المسلمون الأنعام تقربًا إلى الله؛ وهذا أمر أجمع عليه العلماء استنادًا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم؛ قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ (سورة الكوثر: الآية 2) ؛ وهذه الآية تأمر بالذبح مع الصلاة لله تعالى. ؛ كذلك استدل العلماء بآية أخرى تأكيدًا لنية التقرب والخشوع في العبادة: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (سورة الأنعام: الآية 162)،

وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي محمد صلّى الله عليه وسلم قوله: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحّي فليمسك عن شعره وأظفاره» (رواه مسلم في صحيحه، رقم 1977؛ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما)؛ هذا الحديث يؤكد استحباب الإعداد النفسي والجسدي للعبادة والدلالة على قرب وقت الأضحية،

تستمد الأضحية حكمتها من ملحمة إيمانية خالدة، بدأت حين رأى خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام رؤيا منامية فيها ذبح ابنه إسماعيل؛ فامتلأ قلب الأب يقينًا؛وسكن فؤاد الابن تسليمً؛ يروي القرآن الكريم هذه القصة العظيمة في قوله تعالى:

﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ * ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ * ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ * ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ * ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ * ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ﴾ * ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ (سورة الصافات: الآيات 102-107)،

وتبقى قصة إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل نبراسًا يتوهّج في سجلّ الإيمان؛ تحمل بين سطورها معاني الطاعة الخالصة؛ والصبر الجميل؛ والتفاني المطلق في سبيل رضا الله؛ فهي ليست قصة فداء فحسب؛ بل مدرسة يتعلم فيها المؤمن كيف يُسلِم القلب قبل الجوارح؛ وكيف يُقدِّم أمر الله على كل عاطفة بشرية،

ومن عظمة هذا الموقف؛ شرع الله تعالى أن تُستعاد ذكراه المباركة في كل عام بذبح الأضاحي خلال أيّام عيد الأضحى؛ إحياءً لسنة الخليل؛ وتجديدًا لمعاني الإخلاص؛ وتكريمًا للنفوس التي تختار طريق القرب منه على مذبح المحبة والتسليم،

ومن حكمة مشروعية الأضحية أّنها وسيلة للشكر على نعم الله؛ فمن الله العزة والعطاء وفضل الإسلام؛ ونعم السمع والبصر والحياة والمال؛ وهذه كلها تتطلب شكراً لا ينقطع، والأضحية صورة عملية لهذا الشكر والتقرب إلى الله تعالى؛ وتوسع الأضحية في الخير؛ إذ إنّ ذبحها يعني إطعام الأسرة؛ والهدية للأصدقاء والجيران؛

والتصدق على الفقراء؛ فيعم الخير وتتقوى الروابط الاجتماعية؛ وقد أشار القرآن الكريم إلى منزلة الشعائر بقوله تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (سورة الحج: الآية 32)؛ وهو دليل على أنّ الأضحية من تقوى القلوب وتعظيم الله؛ والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا مثالًا في حسن الذبح والإحسان؛ فقال: «إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليُرح ذبيحته» (رواه مسلم، رقم 1955؛ عن شداد بن أوس)؛ كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحد الشفار وأن تُوارى عن البهائم، وقال: إذا ذبح أحدكم فليجهز» (رواه أحمد وابن ماجه)،

شروط الأُضحية صحيحة وثابتة في السنة النبوية والفقه الإسلامي؛ منها: أن تكون من بهائم الأنعام (النعام؛ الماعز؛ البقر؛ الإبل)؛ وأن تكون خالية من العيوب الظاهرة كالعرج؛ العور؛ المرض الشديد؛ أو الهزال؛ وأن يكون عمرها لا يقل عن الحد الشرعي (ستة أشهر في الضأن؛ سنة في الماعز؛ سنتان في البقر؛ وخمس سنوات في الإبل) (رواه الإمام أحمد في مسنده وصحيح الجامع رقم 886)؛ وأن يمتلكها المضحي ملكية شرعية كاملة،

أمّا وقت الأُضحية فيدخل من بعد صلاة العيد يوم النحر(العاشر من ذي الحجة) إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر (آخر أيّام التشريق)؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ أوّل ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر من فعل ذلك فقد أصاب سنتنا؛ ومن ذبح قبل فإنّما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء» (رواه البخاري؛ رقم 5585)، ويجب على المضحي التسمية عند الذبح قائلاً: “بسم الله، اللهم هذه أضحية عن فلان فتقبّل منها”، مستحضراً نيّة التقرب؛ كما ورد في الحديث: «فكلوا مما ذكر اسم الله عليه» (الأنعام: 118)؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد» (رواه مسلم؛ رقم 1962؛ عن عائشة رضي الله عنها)،

وقد اختلف العلماء في حكم الأضحية؛ لكنّها عند الجمهور سنّة مؤكدة على من لديه القدرة المالية؛ وامتناع القادر عنها مكروه لما فيه من تفويت للأجر والثواب العظيم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا» (صحيح الجامع؛ رقم 6490)، كما وردت أحاديث كثيرة في فضل الأضحية وبركتها؛ منها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما عمل ابن آدم يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنّه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإنّ الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض، فطيبوا بها نفساً» (رواه الترمذي؛ رقم 1493)، هذه الشعيرة تعزّز الروحانيات وتوطد العلاقات الاجتماعية؛ إذ يشارك أفراد الأسرة والجيران والأصدقاء في توزيع اللحم؛ فينشأ جو من المحبة والتعاون، ويغني المحتاجين في هذا اليوم المبارك؛ فتتحقق مقاصد الشريعة في الرحمة والعدل،

في الختام، فإنّ الأضحية ليست مجرد ذبحٍ للحيوان؛ بل هي عبادة قائمة على التقوى؛ والنية الصادقة؛ والرحمة؛ والشكر؛ والتواصل الاجتماعي؛ وهي من أحب الأعمال إلى الله؛ تذكّر المسلم بتضحيات إبراهيم عليه السلام؛ وتجمع بين الخضوع لله وبين التكافل الاجتماعي؛ فتكون بذلك من أسمى شعائر الإسلام وأعمقها أثرًا في حياة الفرد والمجتمع.

من محلاّت الرئيس إلى سوق الخميس… واقع الفضاءات التجارية في فرندة – مقال محمد سبع

محمد سبع – الجزائر

حقوق النشر :

إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.

نموذج الإتصال

أية استفسارات أو نقاشات يرجى طرحها أسفله في خانة التعليقات و المناقشات.

شاهد أيضاً

مسجد سيدي إبراهيم المصمودي: معلم زياني بين النور والسكينة

مسجد سيدي إبراهيم المصمودي: معلم زياني بين النور والسكينة – مقال بوعياد دباغ فوزي

أخبار بلا حدود- في زوايا مدينة تلمسان العتيقة، وتحديدًا في حيّ “باب الحديد”، ينتصب مسجد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!