
أخبار بلا حدود- في زمنٍ تتبدّل فيه أدوات الصراع من الفولاذ إلى الشيفرات؛ وتتلاشى أصوات الانفجارات لتحلّ محلها همسات تسريبات خبيثة؛ تبرز إلى السطح حربٌ من طرازٍ جديد؛ لا تُخاض بالسلاح التقليدي؛ بل تُنسج خيوطها في الظل؛ وتُحسم معاركها بخللٍ في برمجية؛ أو بثغرةٍ في نظام؛ إنّها الحرب السيبرانية؛ ذلك النزاع الصامت الصاخب؛ حيث تُدار المعارك خلف شاشات زرقاء؛ وتُطلق الهجمات عبر خوارزميات دقيقة وتُنهب البيانات كما تُنتزع الأسرار من دفاتر المخابرات القديمة.
لم يعد الأمن السيبراني ترفًا تقنيًا أو رفاهًا مؤسسيًا؛ بل صار خط الدفاع الأوّل عن الكيان الوطني؛ وسورًا رقميًا يحيط بالقرار السياسي ويحميه من التلاعب والتجسّس والإختراق، ففي عالمٍ لا يعترف إلا بالقوة؛ بات من لا يمتلك مناعته السيبرانية معرضًا للابتزاز، ومن لا يحصّن بياناته مهدّد بفقدان سيادته في صمت؛ هكذا تغيّرت معادلات الهيبة وصار التفوّق يُقاس بقدرة الدولة على مجابهة المخاطر الرقمية؛ وعلى حماية بنيتها التحتية المعلوماتية من الهجمات التي لا تُرى؛ ولكن آثارها تعمّر طويلًا في أوصال الدولة،
في هذا العالم الرقمي المتداخل؛ تتخذ الهجمات السيبرانية أشكالًا متعددة يصعب حصرها؛ ولكنّها تتفق جميعًا في غاياتها: إرباك الدولة؛ شلّ مؤسساتها؛ أو سرقة أسرارها، هي حرب لا تُرى ولا تُسمع؛ لكنّها تُحسّ بنتائجها: إنقطاع في الكهرباء؛ توقف المستشفيات؛ تسريب وثائق؛ إنهيار بورصات وتشويه صورة بلد بأكمله بضغطة واحدة؛ وما يجعل هذه الهجمات أكثر خطورة أنّها لا تستلزم جيوشًا جرّارة أو ميزانيات فلكية؛ بل يكفي حاسوب وإتصال بالإنترنت؛ وكمية هائلة من النوايا الخبيثة،
لقد غيّرت الحرب السيبرانية قواعد اللعبة؛ فالمهاجم بات مجهول الهوية والأهداف صارت شاملة: من أنظمة الدفاع الجوي إلى البيانات الصحية؛ من البنوك إلى الجامعات، ولعل أبرز الأمثلة على هذه الحرب العالمية الصامتة ما شهدته منطقة كوسوفو سنة 1999؛ حين عطّلت الولايات المتحدة أنظمة الاتصالات العسكرية اليوغوسلافية عبر وسائل إلكترونية موجّهة؛ في أوّل نموذج تكتيكي لحرب سيبرانية مرافقة لضربات عسكرية، بعدها بسنوات؛ وفي العام 2007، نفذّ الكيان المحتل ضربة جوية دقيقة ضد أهداف في سوريا، لكن المدهش أنّ الهجوم لم يبدأ من السماء؛ بل من الشبكة؛ إذ سبقه إختراق سيبراني لأنظمة الرادار السورية؛ مما جعلها عمياء أمام القاذفات،
وإذا كانت هذه الحوادث تُعد إرهاصات أولى؛ فإنّ ما جرى في إيران سنة 2010 مثّل نقطة تحوّل مفصلية؛ حين تسلّل فيروس “Stuxnet” إلى منشأة نطنز النووية؛ أدى إلى تعطيل أكثر من ألف جهاز طرد مركزي دون أن يُلاحظ لعدة أشهر؛ لم تكن ضربة تقنية فحسب؛ بل إعلانًا عن ولادة سلاح جيوسياسي جديد، تصنعه الأكواد لا الصواريخ؛ وما جرى في أوكرانيا منذ 2015 لا يقل خطورة: سلسلة هجمات سيبرانية عطّلت محطات توليد الكهرباء؛ وأوقفت أنظمة البنوك وعطّلت المؤسسات الحكومية؛ وبلغت ذروتها مع إندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 2022، حين سجّلت مايكروسوفت أكثر من مئتي هجوم سيبراني في أول شهر من الغزو،
في الشرق الأوسط؛ لا يقل المشهد قتامة؛ بين إيران و الكيان، إحتدمت حرب صامتة منذ سنوات؛ بلغ تصعيدها ذروته في جوان 2025، مع هجوم سيبراني على منصة “نوبتكس” الإيرانية أدّى إلى إحتراق أصول رقمية بقيمة تقارب 100 مليون دولار؛ تبعته عمليات اختراق استخبارية لكاميرات إسرائيلية من طرف إيران لتحسين دقة الضربات الصاروخية، الحرب باتت شاملة؛ تتجاوز الأبعاد العسكرية لتطال الفضاءات المالية؛ الصحية؛ وحتى المنازل الذكية،
وفي خلفية الصراع بين الصين والولايات المتحدة، تدور حرب سيبرانية صامتة لكنّها شرسة؛ إتهامات متبادلة بالتجسس الرقمي؛ وإختراقات تستهدف أسراراً عسكرية وشبكات بنية تحتية؛ فواشنطن تتهم بكين بالوقوف خلف هجمات استهدفت شركات استراتيجية كـ”لوكهيد مارتن”؛ “سوني” و”Equifax”؛ ضمن عمليات يُعتقد أنّها مدعومة من أجهزة الدولة الصينية؛ في المقابل؛ ترد بكين بإتهام واشنطن بزرع برمجيات تجسسية داخل معدات الإتصالات؛ خصوصًا عبر شركة “هواوي”؛ التي تحوّلت إلى ساحة صراع تكنولوجي دولي، وقد كشفت الصين في 2023 عن رصدها لأكثر من 53 ألف محاولة إختراق سيبراني؛ محمّلة المسؤولية لجهات أميركية؛ فيما شهد عام 2024 إستهداف شبكات الطاقة الأميركية في الساحل الشرقي بهجوم سيبراني خطير؛ رجّحت التحقيقات أنّه تمّ باستخدام أدوات هجومية ذات منشأ آسيوي،
الحرب السيبرانية بين الصين والولايات المتحدة ليست مجرد صراع عابر؛ بل هي وجهٌ جديدٌ من أوجه الحرب الباردة المعاصرة؛ صراع على التحكم في الفضاء الرقمي؛ وعلى من يكتب قواعد اللعبة القادمة: هل سيكون العالم رقميًا بلغة التنين؟ أم بخوارزميات النسر؟
في هذا المحيط المشحون بالإختراقات والمضادات؛ وجدت الجزائر نفسها هدفًا متصاعدًا لموجات من الهجمات السيبرانية، فقد سجّلت تقارير شركة كاسبرسكي أكثر من سبعين مليون محاولة إختراق استهدفت الجزائر خلال عام 2024، هذا الرقم لا يمكن تفسيره فقط بنقص في الموارد أو فجوات في البنية التحتية الرقمية؛ بل يجب قراءته أيضًا في ضوء مواقف الجزائر السيادية من القضايا الإقليمية والدولية؛ ورفضها للوصاية الرقمية الغربية؛ ودعمها الواضح لقضايا التحرّر وعلى رأسها القضية الفلسطينية والصحراء الغربية، كما أنّ مواردها الطاقوية وإنفتاحها على شراكات تكنولوجية مع قوى مثل الصين وروسيا وإيران، جعلت منها هدفًا لجهات تسعى لعرقلة إستقلالها التكنولوجي.
الهجمات التي تطال الجزائر لا تستهدف فقط المؤسسات الحكومية؛ بل تمتد إلى القطاع المصرفي وشركات الطاقة؛ ووسائل الإعلام الوطنية؛ وحتى الأفراد، وتتنّوع بين تعطيل الخدمات وسرقة البيانات؛ والتجسّس على المراسلات الرسمية؛ ونشر معلومات كاذبة بغرض التشويش وزرع الشك بين المواطن والدولة؛ ويُلاحظ أنّ كثيرًا من هذه الهجمات تعتمد على ما يُعرف بـ”الهندسة الاجتماعية”؛ أي استغلال العنصر البشري لإستدراج الموظفين إلى فتح روابط أو ملفات خبيثة؛ ما يجعل الإنسان هو الحلقة الأضعف في سلسلة الحماية السيبرانية،
.أمام هذا الواقع؛ لم تقف الجزائر مكتوفة الأيدي؛ بل شرعت في بلورة إستراتيجية وطنية متكاملة؛ ترتكز على أبعاد تشريعية؛ مؤسساتية؛ تعليمية؛ وتحالفية، فقد سُنّ المرسوم الرئاسي 20-05 ليؤسس لإطار قانوني يحمي الأنظمة المعلوماتية ويمنح البعد الرقمي صفة الأمن القومي؛ وعلى المستوى المؤسسي؛ أنشئت هيئات مختصة من بينها المركز الوطني للأمن السيبراني؛ والمصالح التقنية التابعة للدرك الوطني ووزارة الدفاع، إلى جانب مركز للحرب الإلكترونية بُني خصيصًا لمواكبة التحولات الرقمية داخل المؤسسة العسكرية،
التكوين لم يُهمل بدوره؛ إذ أُنشئت المدرسة الوطنية العليا للدفاع السيبراني؛ لتأهيل جيل جديد من المهندسين والمبرمجين والخبراء؛ القادرين على تحصين الدولة رقمياً وتطوير حلول أمنية ذات سيادة، كما شرعت الجزائر في تشييد مراكز بيانات وطنية؛ تخزن المعلومات السيادية داخل حدود البلاد؛ وتُقلّص التبعية لخوادم أجنبية،
لكنّ الرهان الأكبر لا يكمن فقط في التحصين؛ بل في الإنتقال إلى الردع الرقمي؛ وذلك من خلال تطوير أنظمة تشغيل محليّة؛ وبرمجيات تشفير جزائرية؛ ومنصات رقمية مستقلة؛ تُمكّن البلاد من خوض المعركة حتى خارج حدودها؛ إذا اقتضت الضرورة، وإدراكًا لطبيعة التهديدات السيبرانية؛ فضّلت الجزائر نسج تحالفات تكنولوجية مع شركاء لا يختزلون البيانات في أدوار تجسسية؛ بل يتعاملون معها كعنصر سيادي يُبنى عليه أمن رقمي وتنمية وطنية مستقلة،
ما يميز التجربة الجزائرية هو إدراكها أنّ الأمن السيبراني لا يُبنى فقط بالجدران النارية؛ بل بالوعي الجمعي؛ والتكامل بين المواطن والمؤسسة، فالمواطن المتيقّظ؛ والمبرمج الملتزم؛ والموظف المدرب؛ كلهم جدران دفاع لا تقل أهمية عن أقوى برنامج تشفير؛ لذلك؛ فإنّ الرقمنة دون حماية سيادية ليست سوى وصفة للتبعية،
ومع تصاعد إستخدام الذكاء الاصطناعي؛ والحوسبة الكمومية؛ وإنترنت الأشياء؛ بات من المرجّح أن نشهد جيلًا جديدًا من الهجمات أكثر تعقيدًا وفتكًا؛ ما يجعل الحاجة إلى التحصين التقني أشبه بسباق تسلح صامت والجزائر تدرك؛ بثبات؛ أنّ التحدي الحقيقي لا يكمن في إستيراد المعدات أو تشغيل البرمجيات؛ بل في بناء إستقلال رقمي يجعل القرار السيادي عصيًّا على الإبتزاز التقني، إنّها معركة من أجل الكرامة الرقمية، تُخاض على صمت الشاشات؛ بأسلحة غير مرئية؛ يقودها العقل لا العتاد؛ ويُرسم فيها مستقبل الدول بمن يمتلك مفاتيح التشفير.
السماء تُمهّد للجحيم والشرق الأوسط ينزف بثلاث لغات – مقال محمد سبع
إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.