خيول تيارت: تراث يزخر بمآثر.. ومجد يُكتب بأربع حوافر – مقال محمد سبع

سبع محمد

أخبار بلا حدود- في الجزائر؛ لا تُختصر الفروسية في زيٍّ تقليدي؛ أو إحتفالٍ موسمي تصحبه طلقات البارود وهدير التصفيق؛ بل تُولد مع الإنسان وتترعرع في عروقه؛ كأنّها وعدٌ أبدي لا يُنكث، هي في دم الجزائري كالنخوة؛ تُرضعه له الأمهّات قبل الكلام وتغرسه في قلبه كالإيمان، هناك؛ حيث تصهل الخيول قبل أن تُفتَح أعين الوليد؛ لا يُعامل الحصان كحيوانٍ أليف؛ بل كظلٍّ للروح وكصوتٍ آخر للرجولة، وكحارسٍ لصمت الكرامة، فالجزائري؛ حين يشدّ لجام فرسه؛ لا يُراهن على سباق طريق؛ بل يُراهن على ذاكرة أمّة؛ على عودة الزمن النبيل؛ على شموخ لا ينحني؛ حتى وإن انكسر ظهر التاريخ،

وإن كانت الفروسية في الجزائر رُوحًا تعلو؛ فإنّ تيارت هي الجسد الذي يحتويها؛ القلب الذي يضخّها في الوجدان؛ والمهد الذي لم يكفّ عن ولادة الفرسان، في تيارت؛ لا يُربّى الحصان في الحظائر؛ بل في العيون؛ في القصائد؛ في تفاصيل الحياة اليومية كرمزٍ للثبات حين تهتزّ الأرض؛ هنا؛ الفروسية ليست تقليدًا موروثًا؛ بل نبضٌ يتجدد كلما صهل حصان؛ و كرامة لا تُحكى في إستعارات الشعر؛ بل تتجسّد جسدًا صلبًا يُطاول الريح؛ يركض وفي عضلاته ذاكرة لا تشيخ، الفروسية ليست ممارسة عابرة؛ بل نشيد طويل محفور على سنابك الخيل؛ تهتف به الأرض كلما مرّ فارسٌ تعانقه الريح، ويلتفّ حوله الغبار كعباءة من المجد القديم،

ولأنّ الفروسية لا تزدهر إلاّ في أرض تُدرك قيمة الحصان وتُجِلّ حضوره؛ وجدت لنفسها في ربوع تيارت موطنًا مثاليًا؛ حيث التربة تنبض خصوبة والمناخ يحنو باعتداله؛ وأهلها يتهامسون بأسماء السلالات الأصيلة كما لو كانت أنسابهم؛ ويعشقون الخيل عشق العارف لما فيه من شرف النسب ونُبل العهد،

تاريخ المدينة لا ينفصل عن هذا التعلّق بالفرس؛ فمنذ أن كانت تحت السيطرة الرومانية؛ ثم مقرًا لمملكة بربرية شيّدت معالمها في “الأجدّار”؛ ثم واحة للعلم والتجارة زمن الدولة الرستمية التي جعلت من “تاهرت” عاصمة تمتد حدودها من طرابلس شرقًا إلى تخوم وهران غربًا؛ كانت تيارت تُنشد الخيل مع النسيم وتحمل الفروسية في نبضها؛ كأنّها حارسة السرّ ووارثة المجد في صمت السهول؛ ومع الأمير عبد القادر؛ تعمّق هذا الإرتباط؛ حينما أعاد بناء “تاقدمت” كعاصمة للمقاومة؛ وجعل من الخيل عماد جيشه النظامي وسلاحه المرن في حرب الكرّ والفرّ ضد ترسانة الإحتلال الفرنسي،

وفي فترة إستعمارية مفصلية؛ أدركت الإدارة الفرنسية أهميّة الحصان في هذه الرقعة من الوطن، فأنشأت عام 1877 “جمنتري شاوشاوة”، مركزًا لتربية الخيول لصالح الجيش الفرنسي؛ محاولة لإستنساخ القوة التي شكّلتها الفروسية في المخيال الشعبي والواقع العسكري الجزائري، فجُلبت إلى المركز سلالات أوروبية كالروسية والبولونية والفرنسية؛ وهُجّنت بخيول محليّة،

لكن ما شُيّد ذات يوم لخدمة آلة الاحتلال؛ تحوّل بفضل الإرادة الوطنية إلى معلم سيادي يحمل عبق الإستقلال وروح الانبعاث، فبعد 1962؛ أعادت الدولة الجزائرية هيكلة مركز شاوشاوة، ومنحته إسمه الجديد “المجاهد قايد أحمد”؛ ليصبح مركزًا وطنيًا لتربية الخيول؛ يمتد على أكثر من 870 هكتارًا؛ وبذلك يُعد الأضخم من نوعه في إفريقيا والعالم العربي؛ ويضم سلالات نادرة تحمل في جيناتها تاريخًا طويلًا من المجد والجلَد؛ من الحصان العربي الأصيل القادم من الشرق؛ إلى البربري الذي إمتطاه فرسان نوميديا؛ وصولًا إلى الهجين العربي-البربري؛ الذي يزاوج بين رشاقة الشرق وصلابة الغرب وهكذا؛ تحوّلت المنشأة من ذراع استعمارية إلى مختبر سيادي يمزج بين الأصالة والحداثة ،

ولم يكن ذلك سوى خطوة أولى في مسار طويل من البناء المؤسساتي، تُوّج سنة 1986 بإنشاء “الديوان الوطني لتنمية تربية الخيول والإبل” بالمدينة؛ ثم إعادة هيكلته سنة 2002؛ ليُدرج تحت إشراف وزارة الفلاحة؛ محافظًا على طابعه الوطني والدولي في آن واحد، والتي من مهامه؛ بيع الأحصنة وتنظيم المزادات؛ وتصدير الخيول للمشاركة في المحافل الدولية؛ فضلًا عن تقديم خدمات التلقيح الاصطناعي والتدريب والعلاج البيطري، كما عقد شراكات مع معاهد تقليدية لتكوين الحرفيين في فنون السرج والحدادة؛ ووقّع اتفاقيات مع مراكز طبية لإستخدام الخيل في علاج الأطفال المصابين بالتوحد؛ في تجربة إنسانية تؤكد أنّ الفروسية في الجزائر لم تعد ترفًا بل علاجًا؛ ولم تعد تراثًا فقط بل ابتكارًا، ولم يمر هذا المجهود الحضاري دون صدى دولي؛ فقد نالت تيارت عضوية دائمة في كبرى المنظمات العالمية؛ مثل الإتحاد الدولي للحصان العربي؛ والمنظمة الدولية للحصان البربري، والهيئات المهتمة بالخيول الإنجليزية، وتشير الإحصائيات الحديثة إلى أنّ الخيول الجزائرية؛ خصوصًا البربرية؛ تتفوق في ميادين السباق والتحمّل؛ بفضل خفتها وذكائها وقدرتها العالية على التكيف؛ ممّا جعلها محل طلب من بلدان عدّة، أبرزها دول الخليج وروسيا وفرنسا،

ومن الميادين إلى المهرجانات؛ باتت تيارت تحتضن سنويًا مهرجان الفرس؛ وهو ليس مجرد إحتفال، بل طقسٍ متجذرٍ يعيد الرباط الأبدي بين الإنسان وجواده؛ بين التراب والذاكرة؛ بين صهيلٍ ينهض من الماضي ونبضٍ يكتب الحاضر، وفي كل دورة؛ يكتمل المشهد بحضور الفرسان بأزيائهم المورّثة؛ وبخيول تُدرّب بعناية تتجاوز المهارة إلى قداسة الطقوس؛ ليُستعاد في الوجدان معنى الهوية؛ لا تلك المدوّنة في النصوص؛ بل الموشومة في عمق الأرض بأثر سنابك لا يُمحى،

هكذا؛ لا يمكن للفروسية في تيارت أن تُختزل في ممارسة أو عرض؛ بل هي مرآة ناصعة تعكس ملامح الهوية الجزائرية بكل شموخها، ففي صهيل الخيل ترنّمات من أمجاد الأجداد؛ وفي أعين الجياد بريق عزّة لا تنطفئ؛ كأنّها تحرس الكبرياء الوطني من غبار النسيان، وبين ذراعي المركز الوطني، تقف المدينة شامخة على تخوم الماضي والمستقبل؛ تروي حكاية المجد بلغة علمية حديثة؛ وتستدرج الغد بأصالة لا تشيخ، وفي هذا الفضاء الرحب؛ لا تزال الأرض تنجب الفرسان؛ لا لتسابق الزمن؛ بل لتلقّنه درسًا “أنّ العزّة لا تُمنح، بل تُمتطى؛ حين تكون الفروسية في العروق؛ والكرامة مشدودة على اللجام”.

خوارزميات من رحم الوطن:  كيف تُقاتل الجزائر في  الظّل بلا علن – مقال محمد سبع

محمد سبع – الجزائر

حقوق النشر :

إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.

نموذج الإتصال

أية استفسارات أو نقاشات يرجى طرحها أسفله في خانة التعليقات و المناقشات.

شاهد أيضاً

سبع محمد

خوارزميات من رحم الوطن:  كيف تُقاتل الجزائر في  الظّل بلا علن – مقال محمد سبع

 أخبار بلا حدود- في زمنٍ تتبدّل فيه أدوات الصراع من الفولاذ إلى الشيفرات؛ وتتلاشى أصوات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!